يعاني أهل اليرزة منذ أسابيع من رائحة نتنة تنبعث في منطقتهم. مصدر الرائحة ليس أحد مكبات النفايات المحيطة بالطرقات، بل بناية. البناية شيدت فوق عقار. تكلفة شق الطريق إلى العقار وتعبيده تبلغ نحو مليون دولار. سعر العقار يتجاوز عشرة ملايين دولار. تكلفة بناء البناية تتجاوز أربعة ملايين دولار.
الديكور نصف مليون. الفرش نصف مليون. سيارات المرسيدس المصفحة والسيارات الخمس الرباعية الدفع والـ»نيسان» والـ»فورد» المتوقفة تحت البيت كلّفت أكثر من مليون. أما المرافقون و»الجماهير» والمستشارون والطباخ والخدم فتقدر كلفتهم بمئتي ألف دولار سنوياً، وهو مبلغ يتجاوز بدل تقاعد قاطن البناية عن كل سنوات عمله. إلا أن سبب الرائحة ليس هذا كله، فقد اعتادت اليرزة كغيرها من المناطق أن يفد إليها ثري جديد تسبق جرافات الدولة والمتعهدين موكبه بالوصول، فتشق له الطريق وتهديه الحفر ثم الخرائط ثم الباطون ثم البويا ــــ وهو يحب البويا ــــ ثم الفرش وأخيراً الزهور. هدايا، يمكن الهدية أن تكون ساعة أو مجموعة تعهدات للأصهرة والأحباء أو مجموعة قروض مصرفية تعلم إدارات المصارف أنها خرجت ولن تعود. تأقلم أهل المنطقة مع هذه المظاهر وما عادت تقلق راحتهم. ما يزعجهم هي الأصوات التي تخرج من هذه البناية. ظنوا أن مأساتهم ستنتهي خلال بضعة أشهر، إلا أن الكابوس لم ينته. يروي هؤلاء أن شاغل البناية يمشي ويصرخ وهو نائم. يخرج بعيد منتصف الليل من كل مساء إلى شرفة مبناه ويبدأ الهتاف: «أعيدوني، أعيدوني، بالقوة أخرَجوني، أعيدوني، أعيدوني». يقضّ صوته مضجع أهالي المنطقة الهادئة. في الصيف كان يصلهم الصوت منخفضاً بحكم إقفال النوافذ وتشغيل المكيفات، أما الآن فلا شيء يحجب الصوت الذي تزداد هستيريته: «أعيدوني أعيدوني، أنا الخشب أنا، حتى ابتسامتي خشبية، أنا غطاء 14 آذار وتهريب شاكر العبسي، أنا محطات البنزين وعاشق الكازينو والفيلل وكتب الإنجازات وتاجر الجنسيات».
«يتكرر الأمر كل ليلة. ولا نكاد ننام حتى يوقظنا من جديد قبل طلوع الضو، متخيلاً نفسه ديك الحي». يخرج إلى الشرفة نفسها بكامل قواه العقلية هذه المرة، يشغل مكبرات الصوت ويلتقط مذياعاً ويبدأ تلاوة البيان: «أنا أزقزق إذاً أنا موجود. أنا أسمع صوتي إذاً أنا موجود. أنا لا أمثل أكبر خرق فاضح للدستور، أنا حارس الدستور. أنا لم أختبئ تحت السرير العسكري في 13 تشرين. أنا لم أهرب. أنا أرى نفسي على التلفزيون. إذاً أنا موجود».
طبيب الحيّ النفسيّ يقول إن الحالة مفروغ منها. عائلته ومحبوه يواصلون رفع معنوياته: يتوسطون لدى بعض الصحف والمجلات الفنية والتلفزيونات لتشير إلى عظمة إنجازاته بين خبر وآخر. ينسبون إليه قصصاً لا تخطر على بال. تارة يقولون إنه تصدى وحده للقرار الأممي – الإقليمي – المحلي بترقية فلان وعدم التمديد لعلتان، وطوراً يشيرون إلى اتخاذ أحد ممثليه قراراً من رأسه. يطبعون كتباً خصيصاً له تستعرض إنجازاته، ويتكبدون تكلفة إعداد وثائقيّ تلو آخر. ويستعينون بممثلين مبتدئين يلبسونهم بذلات رسمية لإيهامه بأنهم مستشاروه. يطيب له القول إن لديه حركة سياسية ومؤيدين ووزراء، فيطيبون له مطبطبين. يبرمجون التلفزيون والفيديو ليرى نفسه كيفما تنقل بين المحطات، علّ مرض العظمة يعالج. يراعون أنه يكذب الكذبة ويصدقها. ينادونه في البيت أقوى رجل في العالم. يقرصونه في وجهه حين يرونه يلعب طاولة مع أحد أصدقائه العجّز ويسعون جاهدين لتبرير حالته للجيران، مستدرّين عطفهم أو شفقتهم.