كل عام، منذ ثماني سنوات، تصل الدعوة نفسها إلى مئات الوزراء والنواب، الحاليين والسابقين، والمرشحين إلى الانتخابات النيابية والقضاة والضباط ورجال الأعمال والمصرفيين وأصحاب الشركات، للمشاركة في العشاء السنوي الذي تقيمه «مؤسسة البطريرك صفير». تختفي المؤسسة وأخبارها عاماً كاملاً، لـ «تظهر»، فجأة، في موعد عشائها السنوي. التاريخ هذا العام: 7 تشرين الثاني.
والعنوان ثابت: فندق الحبتور. كراسي المتمولين والمتبرعين و»أصحاب الأيادي البيضاء» ثابتة أيضاً، وكذلك الطاولات وبرنامج السهرة. التغيير الوحيد هذا العام كان في تزيين الدعوات بشعار بنك بيروت الذي يحجز رئيسه سليم صفير قرصاً في كل عرس كنسيّ. أما الغائب الأكبر هذا العام، فهو البطريرك بشارة الراعي الذي رعى عشاء السنوات الأربع الماضية.
الجمعية التي تحمل اسم البطريرك المتقاعد، تأسست عام 2004، ويرأسها طبيبه الياس صفير، فيما تشغل شقيقة البطريرك، ميلاني بريدي، منصب أمينة المال فيها. وتأتي مواردها، بحسب العلم والخبر، من اشتراكات الأعضاء والمساعدات الحكومية والتبرعات والهبات والوصايا. فغطاء البطريرك المتقاعد جعلها موقع ثقة لدى كثير من رجال الأعمال والمتمولين الذين يغدقون عليها بالشيكات. إلا أن رئيس الجمعية رفض، بحسب محاضر الاجتماعات، طلبات بعض أعضائها توظيف محاسب مالي أو التعاقد مع مدقق حسابات، كما رفض وضع جدول يبيّن مداخيل الجمعية ومصاريفها حتى يطمئن المتبرعون فيدفعوا المزيد، الأمر الذي دفع أول هيئة إدارية إلى الاستقالة. واللافت أن الجمعية ــــ التي لا تتوخى الربح وفق نظامها الداخليّ ــــ توظّف، بحسب معلومات موثوق بها، نحو نصف مليون دولار سندات خزينة في بنك البحر المتوسط بدل صرفها على مشاريع إنمائية.

توظّف المؤسسة
التي لا تبغي الربح نحو نصف مليون دولار سندات خزينة!


الهدف الأول للجمعية ــــ ودائماً بحسب العلم والخبر ـــــ هو نشر التراث اللبناني. أما وسيلتها لتحقيق ذلك، فهي، أولاً وأخيراً، عشاء سنوي تزين موائده بالفتوش والتبولة والحمص والكبة النية وغيرها من الأطباق التراثية. وحرصاً على «التراث» سيشرب المدعوون عرق غنطوس وبو رعد بدل ويسكي «بلاك لايبل» و»جوني ووكر»، ولن يدبكوا على غير الأغاني التراثية اللبنانية. ولأن الهدف الثاني للجمعية هو حماية البيئة، نسق المنظمون مع إدارة الفندق للتأكد من فرز النفايات في نهاية السهرة على نحو يراعي الشروط البيئية. واللافت أن الجمعية لا تكبّد نفسها عناء تنظيم نشاطها السنوي الوحيد، بل تعهد، من دون مناقصة أو استدراج عروض، إلى شركة خاصة تنظيم العشاء الذي يبلغ سعر بطاقته مئتي ألف ليرة، مقابل حصول الشركة على نحو 40 % من المداخيل.
أهداف الجمعية تشمل أيضاً تنظيم مؤتمرات وندوات. إلا أن ضغط السنوات العشر التي مضت على تأسيس الجمعية حال دون تحقيقها شيئاً من هذا كله. وهو أمر إيجابي برغم السلبية التي يوحي بها. فمحاضرة رئيس الجمعية السنوية عبارة عن «قصاص جماعي» يردد خلاله دزينة من العبارات الجاهزة مثل: «بالوحدة الوطنية نواجه التفرقة المذهبية» و»بروح المحبة نغلب دعوات الكراهية» وغيرهما من العبارات. أما الهدف الأخير للجمعية، وهو مساعدة الطلاب على استكمال تحصيلهم العلمي، فلقي الاهتمام المطلوب من الجمعية التي قال رئيسها في عشاء العام الماضي إنها قدمت منذ تأسيسها مساعدات تربوية لأكثر من 650 طالباً. المطلعون يؤكدون أن غالبية المساعدات هي عبارة عن دعم مالي لطلاب في جامعة اللويزة. فبدل تأهيل البنية التحتية السيئة في كليات الجامعة اللبنانية أو تأمين مبلغ مالي صغير لطلاب الجامعة اللبنانية الذين يضطروا إلى العمل بعد الظهر لتأمين مصروفهم، أو بناء سكن جامعي مجاني في الفنار، مثلاً، قررت المؤسسة دعم طلاب الجامعات الخاصة الباهظة.
الخلاصة أن مؤسسة البطريرك صفير، بشكلها الحالي، تشبه البطريركية المارونية في عهد صفير، حين كان ينقصها الكثير من التنظيم الإداري، فيما كانت (ولا تزال) الأوقاف والأملاك الكنسية يديرها أفراد بدل إيجاد إطار مؤسساتي شفاف يضمن الرقابة. الغيورون على استمرارية اسم البطريرك المتقاعد يرون أنه يحتاج إلى جمعية أكثر ديناميكية وطموحاً وابتداعاً للمشاريع من جمعية العشاء السنوي، التي تدعم من لا يحتاجون الى الدعم، أو تجمد الأموال في وقت يئن فيه مجتمعها تحت ضغوط اجتماعية استثنائية. علماً أن حل الجمعية، وهو ما ينتظر من البطريركية المارونية أن تطلبه حرصاً على المال العام، يؤدي وفق العلم والخبر إلى ذهاب أموالها وممتلكاتها – بعيد التدقيق في الحسابات – إلى البطريركية المارونية.