آن الأوان لكي يسأل من يدفعون الفواتير الإستشفائية الباهظة في «مستشفى الروم» والأقساط المخيفة في المدارس الأرثوذكسية وجامعة البلمند أين تذهب أموالهم، وكيف يدار الوقف الكنسي وتوزع عائداته؟ والأهم من السؤال هو الحصول على أجوبة تبرر الخسائر التي تعلن بين وقت وآخر وتحديد المسؤولين عنها وسبل محاسبتهم، وخصوصاً أنها الذريعة الدائمة لرفع الرسوم والأقساط وعدم تقديم المساعدات والمنح اللازمة.
السؤال مشروع استناداً الى إرث الكنيسة الأرثوذكسية ونظامها الداخليّ السابق الذي كان ينص على الشراكة الكاملة بين رجال الدين وجميع أبناء الطائفة الممثلين في مجالس منتخبة لهذه الغاية، قبل أن يقرر الاكليروس إجراء تعديلات للتفرّد بإدارة كل المؤسسات. أما التوقيت، فيرتبط بشلل بعض المطرانيات ولامبالاتها حيال النزوح الأرثوذكسيّ الكبير من سوريا وخطف المطرانين وكل ما يجري في المنطقة. الاعتراض على إلغاء الشراكة داخل الكنيسة كان يقتصر، منذ أكثر من عقدين، على مجموعة صغيرة تعرف بـ «الجبهة الأرثوذكسية». وحده عضو الجبهة نقولا مالك كان يحمل ملفاته ويدور من ساحة الى أخرى، رافضاً استئثار المطران الياس عودة بإدارة الكنيسة والوقف والمؤسسات الكنسية وكل المؤسسات التربوية والصحية من دون حسيب أو رقيب، إلا أن المعطيات تشير الى أن مالك لم يعد وحيداً. فأجواء «اللقاء الأرثوذكسي» عموماً، والنائب السابق إيلي الفرزلي خصوصاً، إضافة الى مجموعات مؤثرة في مطرانيات بيروت وجبل لبنان وعدة أبرشيات سورية واغترابية، كلها تشي بتوجه جدي الى بلورة موقف واضح في معارضة استمرار الأوضاع على بؤسها الحالي.

معظم المطارنة الأرثوذكس في لبنان أقرب إلى عوكر ومن خريجي الكنيسة اليونانية


وبرغم أن هؤلاء يعوّلون أساساً على البطريرك يوحنا اليازجي الذي انتخب بطريركاً قبل نحو عامين، إلا أنهم لا يخفون إحباطهم من عدم اتخاذه، ولو إيحاءً، أي خطوات جدية لتفعيل مراقبة المؤسسات والوقف الكنسيين وتوضيح المداخيل والمصاريف للرأي العام، وخصوصاً أبناء الكنيسة.
إدارياً، تتفرّج البطريركية على الأحاديث المختلفة عن وجوب تقسيم مطرانية جبل لبنان أو تقاسمها بين المطرانيات ليذهب الجزء الأكبر منها إلى مطرانية بيروت فيزداد نفوذ المطران الياس عودة.
سياسياً، لا يزال عودة يوحي بأنه الناطق باسم الكنيسة الأرثوذكسية، وقد مرّ بيعه لأراضي الوقف وتأجيرها مرور الكرام، فيما يخطّط لإنشاء جامعة خاصة في الأشرفية لسحب بساط «البلمند» من تحت البطريركية. والأسوأ هو أن البطريركية لا تجد نفسها معنية بأداء دور استثنائي في ما خص النزوح الكبير من سوريا أو رفع الصوت ضد خطف المطارنة والرهبان وتدمير الأديرة والكنائس. واللافت أن البطريرك اليازجي كان قد عقد قبل عام مؤتمراً يبحث «دور الشعب الأرثوذكسي في الحياة الكنسية»، إلا أن توصياته ضُمّت سريعاً إلى أرشيف الكنيسة الممتلئ بالتوصيات التي لا يُنفذ منها شيء.
اقتصادياً، يبدو المشهد الأرثوذكسيّ اليوم على النحو التالي: الجمهور في عكار وطرابلس والكورة والأشرفية وزحلة ومرجعيون وجبل لبنان في مكان، ورجال الأعمال المحيطون برجال الدين في مكان آخر. والهوة شاسعة بين رجال الأعمال الذين يريدون التوسع في أعمالهم ضمن نطاق الوقف الكنسي والمؤسسات الكنسية التربوية والاستشفائية، والجمهور. أما رجال الدين، فيفضلون حماسة رجال الأعمال ومشاريعهم المربحة على شكاوى المؤمنين واحتجاجهم الدائم على ارتفاع الأسعار وغيرها.
أما سياسياً، فالناخبون الأرثوذكس في عكار وطرابلس والكورة والأشرفية وزحلة وجبل لبنان في مكان، وممثلوهم المفترضون في المجلس النيابي في مكان آخر. ويتطابق موقف النواب الحريريين هنا مع غالبية رجال الدين. ومن تصدى لاقتراح القانون الأرثوذكسي بقوة سابقاً كان النواب الأرثوذكس أولاً الذين سيخسرون مقاعدهم اذا حظيت طائفتهم أخيراً بفرصة انتخاب ممثليها، بدل أن يواصل تيار المستقبل انتداب موظفيه لتمثيلها. والمطارنة ثانياً لخشيتهم على التقليد القائم بتزكيتهم فلاناً من موظفي المستقبل على غيره من الموظفين لدى القيادة الحريرية.
عملياً، يسأل نائب رئيس مجلس النواب السابق ايلي الفرزلي عن الفائدة التي يجنيها المواطنون الأرثوذكس من «مستشفى الروم»، داعياً الكنيسة إلى نشر ميزانية توضح ما يتسبب بخسارة المستشفى عاماً تلو الآخر. والسؤال واجب، أيضاً، عما يدفع جامعة جامعة البلمند إلى تأسيس مستشفى في الشمال، ما دام مستشفى الطائفة في بيروت يخسر. والأهم يكمن في أسباب هذه الخسارة. أما السؤال الثاني، فيتعلق بوقف الطائفة، انطلاقاً من وسط بيروت، حيث تحوّل الحضور الأرثوذكسي إلى «أسهم لحاملها». وهو ينتظر إجابة تفصيلية تشرح للرأي العام حجم الأراضي التي بيعت أو أُجِّرت ومكانها، وأسماء المستثمرين وأسعار المبيع أو الإيجار. ومعلومات الفرزلي توحي بوجود فضائح كبيرة في هذا الملف. أما السؤال الثالث، فيتعلق باستمرار بعض المطارنة في عملهم «برغم الشبهات الأخلاقية حولهم». ويقول الفرزلي إن ربط مصالح الأرثوذكس في كل لبنان بشخص واحد هو عرضة لـ»الأهواء والإغراءات» بغض النظر عن مناعته أو عدمها، هو أمر خطر.
كتب الفرزلي مرة أن «بروز الكنيسة الأرثوذكسية في لبنان وسوريا فتح أعين الديبلوماسية الأميركية منذ عام 1960 إلى وجوب التدخل في شؤون الكرسي الأنطاكي وتذكية صراع المطارنة داخله للسيطرة على ذلك الكرسي». ومن يدقق اليوم في مواقف المطارنة الأرثوذكس وخلفياتهم فسيُصدم بأن عدداً مؤثراً منهم أقرب إلى السفارة الأميركية في بيروت منه إلى السفير الروسيّ أو السوريّ، وأن غالبيتهم من خريجي الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية التي تبيع الأراضي الأرثوذكسية في فلسطين لليهود، وهم يرفعون الصوت اليوم اعتراضاً على التدخل الروسيّ ضد التكفيريين في سوريا على نحو يستوجب السؤال الجديّ: أين كان هؤلاء حين خطفت المجموعات التكفيرية معلولا والمطارنة والكنائس وغيرهم؟ علماً أن البطريرك الروسي فوجئ حين زار بيروت أخيراً بمطران بيروت يبقيه منتظراً أكثر من عشرين دقيقة، قبل أن يعرض عليه عودة تناول العشاء في كافيتيريا المستشفى، فما كان من الأخير سوى الاعتذار بلباقة والمغادرة.




متى ينتهي البناء في مستشفى البلمند؟

بعد طيّ جامعة البلمند صفحة «مستشفى الرئيس رفيق الحريري»، إثر الاعتراض الشعبي الواسع على اشتراط الممولين لإنشاء المستشفى تسميتها باسم رئيس الحكومة الراحل بدل «سيدة البلمند»، عاد مشروع المستشفى ليطل من جديد عبر رسالة وجهها رئيس الجامعة إيلي سالم للمتخرجين في 14 نيسان 2014. يومها أعلمهم سالم بقرار الجامعة استحداث مركز طبي في الجامعة «استدنّا الأموال من أحد المصارف الخاصة» لبنائه (مصرف IBL الذي يرأس مجلس إدارته نائب طرابلس الأرثوذكسي السابق سليم حبيب، والقرض مدعوم من مصرف لبنان). أما تصميم المستشفى فأعده المهندس نبيل عازار. واشار سالم إلى تقدم ثمانية متعهدين إلى مناقصة المستشفى، وإلى أن الأعمال ستنطلق في الصيف لتستغرق بين عامين وثلاثة. وختم رسالته بأن «البلمند وفّرت أموال الحفر والبناء والتجهيز، لكن الباب قد يفتح مستقبلاً للمتبرعين».
تقدمت شركات عدة إلى المناقصة ليتبين بعد فضّ العروض أن شركة الإنشاءات العربية (علي غسان المرعبي) تقدمت بأعلى سعر: نحو 56 مليون دولار، فيما تقدمت شركة المهندس إيلي معلوف بأدنى سعر: نحو 42 مليون دولار. أما شركة نائب رئيس مجلس الوزراء سمير مقبل، فكان سعرها نحو 49 مليون دولار. رست المناقصة على معلوف بعد تدقيق دار الهندسة في الملفات. وظن المعنيون بالمشروع داخل الجامعة ووسط المقاولين أن الأعمال ستنطلق، إلا أن إدارة الجامعة أبلغت شركة معلوف أن في حوزتها 30 مليون دولار فقط، ولا يسعها توفير مبالغ إضافية، رغم قول سالم في رسالته للمتخرجين إنهم وفّروا المبالغ اللازمة. بدأ البحث عن الحلول المتوافرة، وبرزت اقتراحات جدية بإمكانية الاستغناء عن المصبغة مثلاً لمصلحة التعاقد مع إحدى المصابغ القريبة، وتكبير الأقسام المربحة وتصغير الأقسام غير المربحة، والتعاقد مع أحد المختبرات القريبة للاستغناء عن بعض الماكينات المكلفة في المرحلة الأولى. إلا أن المعنيين بالمشروع فوجئوا بتجاهل إدارة الجامعة لكل النقاش الحاصل وإعلانها الانطلاق بتنفيذ المشروع بنفسها. ولدى الاستفسار، تبين أن إدارة الجامعة قررت حلها «أهلية بمحلية» من دون مناقصات ودفاتر شروط: استدعى رئيس الجامعة أحد المتعهدين المقربين منه ليبدأ الحفر، وبالطريقة نفسها استدعي تاجر باطون ومعلم بناء وسمسار تجهيزات استشفائية و(...) بدأ العمل.
وفق دفتر الشروط السابق كان يفترض أن ينتهي العمل كاملاً خلال 36 شهراً، على أن ينتهي في المرحلة الأولى (18 شهراً) الحفر وبناء القسم الخارجي الذي يضم العيادات والمختبرات والأشعة. اليوم، بعد مرور تسعة أشهر، لا يزال العمل في مرحلة الحفر، ولا شيء يوحي بأنّ المرحلة الأولى ستنتهي بعد تسعة أشهر أو حتى تسعة عشر شهراً. لكن لا أحد يسأل أو يدقق في الحسابات المالية ونوعية العمل وغيره.