باريس/ برج البراجنة

"العالم القديم انتهى والعالم الجديد تأخر بالظهور، وما بين العتمة والضوء تولد الوحوش".
أنطونيو غرامشي

في الطائرة العائدة بي الى ربوع الوطن الغارق في الزبالة، والمغطى بأسراب الذباب الأزرق، "مكرهة قليلاً" لأسباب صحية، كنت أتابع بشيء من الشرود سيرنا على الشاشة الديجيتال التي تبين للركاب فوق أي بلد نحلّق وكم تبقّى من الرحلة. الطائرة الروسية المنكوبة التي كان داعش قد أسقطها فوق صحراء سيناء، كانت في بالي وأنا أنظر الى الشاشة. قلت في نفسي: ما المانع من أن تكون هذه الرحلة هي التي اختارها داعش للانتقام من لبنان؟ كانت خاطرة عدت بعدها الى كتابي. لكن ما لم يخطر قط في بالي، هو أني أغادر باريس عشية تفجيرات رهيبة ستوقع ١٣٠ قتيلاً و٣٥٦ جريحاً، وأني أصل الى بيروت حيث سيستقبلني تفجير مرعب آخر في برج البراجنة سيسقط ضحيته ٤٣ قتيلاً و200 جريح.
كلنا اليوم، أكاد أقول، نشبه حالتي في الطائرة. نعيش لأننا نجونا من تفجير هنا أو هناك، حرب هنا أو اشتباك هناك، من دون أن يكون مكاننا الحالي، بين التفجيرين، آمناً بالضرورة.

لا أمن في عالم اليوم. لم يعد هناك من زاوية تقول لنفسك سأذهب وأنضبّ فيها فلا يطالني أو يطال عائلتي إرهاب أو حرب. لا سلام على الأرض، وبالطبع لا مسرة. العالم متجهم كئيب، يبدو تماماً كما أجاد عالم الاجتماع أنطونيو غرامشي الوصف "العالم القديم انتهى والعالم الجديد تأخر بالظهور، وما بين العتمة والضوء تولد الوحوش".
وباريس كانت خائفة منذ ما قبل الاعتداءات، هكذا رأيتها حين وصلتها قبل ثلاثة أسابيع من ١٣ تشرين الثاني. كانت هي الأخرى كبيروت، كئيبة. من يعرف باريس فعلياً لن تغشه ابتسامات النادل المفتعلة، أو ابتسامات البائعات الماهرات اللواتي اشتهرت بهن باريس. واجهات باريس تفضحها: نقص في الإبداع والأفكار الخلاقة. في السوق الأسبوعي بين باعة الخضر والثياب، الوجوه تنضح بالتوتر، والأكف تقبض على اليورو بحرص مستجد. الكل يشتكي ويتأفف.
ثم... ضرب الإرهاب. أفلت داعش من عقال رعاته. وها هو يضرب خبط عشواء هنا وهناك على الأرض وفي السماء. الجريمة المرعبة أنطقت من كان بهم "خرس" على وسائل الإعلام الفرنسية، وما كان يقال مواربة أو في وسيلة إعلامية غير بارزة أو في زاوية مهملة من صحيفة مشهورة، بات يقال بحماسة وغضب شرعنتهما التفجيرات الرهيبة.
هكذا، ارتفع الصوت ضد الثغَر الأمنية أولاً، ثم ضد... السياسة الخارجية الفرنسية. سياسة وصفها الخبراء على أنها تتبع منذ فترة طويلة أسلوب "هيا بنا الحرب". واللافت، أن أصابع الاتهام أشارت بوضوح الى "حلفائنا" في الشرق الأوسط الذين "يجب إعادة النظر بعلاقتنا بهم"، كما قال العديد من الساسة المعارضين وكتّاب الرأي الذين عجت بهم بلاتوهات التلفزيونات الإخبارية غداة ١٣ نوفمبر المشؤوم.
نعم، لقد خرج داعش عن السيطرة. وخرج الكلام غير المستحب والمحرج الى فضاء الرأي العام عن "الحلفاء" غير الأخلاقيين. بعض كتّاب الرأي لم يتورعوا عن تسمية الثلاثي غير المرح: قطر والسعودية وتركيا بالتحديد. ويشير آخر الى التورط التركي والأردني في تبييض النفط الداعشي، مصدر التمويل الأساسي لداعش، إضافة الى "تبرعات الأمراء الخليجيين" وبيع الآثار. في حين يتحدث آخرون عن دور المملكة السعودية في تشجيع الوهابية كموديل أوحد للإسلام، خوفاً على سلطتها الدنيوية والدينية من إسلام أكثر تحضراً لا يمكنها أن تتبناه في مجتمعاتها!

في مقابلة تداولتها صفحات الفايسبوك والتويتر، للسياسي الفرنسي المحترم، المرشح السابق للرئاسة دومينيك دو فيلبان، يقول الرجل بشجاعة وبلاغة "نحن من تسببنا بولادة داعش، من حرب إلى حرب ابتداءً من أفغانستان". ويقول إن الحرب على الإرهاب "لا يمكن أن تربح أو تنتهي"، وإنها فقط خلفت أحقاداً كثيرة و"هويات مجروحة".
“الكراهية تجر الكراهية، والحرب تجر الحرب" قال دو فيلبان. يبدو الرجل أحد العقلاء القليلين المتبقين من طبقة سياسية فرنسية ديغولية كانت تتواصل مع هذا الشرق على أرضية نسبية من الاحترام والمعرفة، من دون أن يمنعها هذا الاحترام من الحصول على مصالحها. طبقة، عمل الجمهوريون الجدد في فرنسا على "تنظيف" الدوائر السياسية منها، لتمهيد الطريق أمام الساسة الوصوليين والاستعراضيين الذين يداعبون الغرائز كساركوزي ومارين لوبن التي قامت بانقلاب على والدها أخيراً وطردته من الحزب. وهذه الأخيرة، أي رئيسة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة حازت في الدورة الأولى من الانتخابات الجهوية الأخيرة، ٣٠ بالمئة من أصوات الفرنسيين! أي بفاصل عشرين بالمئة فقط عما حصل عليه الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها. عشرون بالمئة فقط، ربما ستكسبها مارين لوبن بعد التفجيرات الأخيرة بضربة بوكر واحدة لعب أوراقها كل من هولاند... وداعش.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم