لم يسبق للعالم أن شهد مفارقة مذهلة إلى هذا الحد. أن يقوم مجرم واحد، بسلسلة متكررة من الجرائم. وأن تكون جرائمه موضع إنكار مزدوج وثنائي الانفصام: المجرم يفاخر بجرائمه، ثم يرفض الإقرار بارتكابه لها. والضحية تشير إليه كمجرم بذعرها منه، ثم ترفض الاعتراف بأنه القاتل أو حتى التعرف إليه من بين مجموعة المشتبه بهم... إنها حالة الإنكار المزدوجة والفريدة في التاريخ، بين القاتل والقتيل، التي يقدمها في عصرنا هذا الإرهاب الإسلاموي من جهة، وباقي العالم من جهة أخرى.
سكيزوفرينيا الإرهاب الإسلاموي أولاً، يتجسّد في نظرة بسيطة على خارطة العالم اليوم. من ميانمار ومينداناو في الفيليبين، إلى الصحراء الغربية، ومن القوقاز وآسيا الوسطى إلى أقصى غرب أوروبا وشمالها، يحدد الإرهاب الإسلاموي الطالع من الإسلام السياسي السنّي تحديداً، عالماً مخضّباً بضحايا الأبرياء. يرسم حدوده بالدم، مع كل الآخرين. مع الكاثوليكي في الفيليبين ومع الهندوسي في كراتشي ومع البوذي في سينجيانغ وبورما، ومع الإحيائي في السودان ومع الحلولي في بعض أفريقيا ومع الأمازيغي في الجزائر ومع الإيزيدي في نينوى ومع العلماني في فرنسا ومع الأرثوذكسي في أوراسيا ومع الأنغليكاني في لندن ... فضلاً عن سلسلة حروبه الوحشية ضد الشيعي في كل الشرق الأوسط... وصولاً إلى حربه الإلغائية نفسها ضد المسلم السني غير الإسلاموي وغير الأصولي وغير الإرهابي، في كل أنحاء دار إسلامه كما دار حربه على حد سواء. هكذا، ومن تعداد الجبهات والمعارك وخطوط التماس، يتأكد أنها حرب عالمية إسلاموية، على كل العالم، على كل الآخرين، على كل «آخر».
غير أن هذه الحرب المعولمة، تظل تحت تغطية تلك السكيزوفرينيا الإسلاموية من جهة أولى. سكيزوفرينيا أن يتباهى الإسلامويون بها، وأن يفاخروا بواقعها، وأن يمجّدوا ارتكاباتها وفظائعها... ثم أن يتنصلوا من كل مسؤولية عنها، تحت شعار «مظلومية الإسلامويين السنة». أن يقوم المرتكب نفسه، فرداً، وجماعة، وفكراً وإيديولوجيا، ودولاً مصنعة لكل ذلك ومصدّرة له، أن يقوموا بتقديم أنفسهم مرتكبين مظفرين، وضحايا مقهورين في الوقت نفسه. صحيح أن عوامل أخرى متشعّبة ومركبة، تساهم في تكوين وجدان الوحشية هذا. منها اسرائيل، ومنها بعض سياسات الغرب، ومنها أنظمة الاستبداد في المجتمعات الإسلامية التي عجزت طيلة قرون عن بناء ديمقراطية صحيحة... كل هذا صحيح. لكن ذلك كله لا يبرر إطلاقاً ولا يسوغ قطعاً نهج الإرهاب الإسلاموي القائم في عالم اليوم. شعوب أخرى كثيرة احتلت. ومجتمعات أخرى عرفت الاستغلال والاستتباع في تاريخنا الحديث والمعاصر. وبلدان أخرى عانت من نار الغرب الفعلية، أضعاف نيران الحرب العالمية الثانية. وملايين البشر الأكثر فقراً في عالم اليوم لا يعيشون في مجتمع الإسلامويين... وكل هؤلاء قاوموا أعداءهم بكل وسائل المقاومة المشروعة، لكنهم لم يستهدفوا مدنياً ولا بريئا. فضلاً عن أن غالبية الإرهابيين الإسلامويين اليوم، على عكس التسويق والتضليل القائمين، تأتي من طبقة متوسطة ومن مستوى تعليمي عال. تماماً كما بن لادن، وكما أتباعه الخمسة عشر الذين خرجوا من بيئته الفاحشة الثراء، إلى «غزوة 11 أيلول».
هكذا يبدو أول الطريق لمواجهة هذا الإرهاب، أن نعرف وأن نعترف بأن جذوره الأولى تكمن في هذه المتلازمة المثلثة: فكر إلغائي يحتكر الحقيقة، لا بل كل حقيقة، حتى رفض الآخر، أي آخر. وإيديولوجيا تشرع استخدام العنف كل العنف. وإمكانات مالية ومادية توضع بتصرف هذا الفكر، إما اقتناعاً، وإما استلاباً، وإما تحويراً لخطره عن الذات المريضة صوب الآخر الصحيح.
تبقى سكيزوفرينيا أخرى، تغطي الإرهاب الإسلاموي وتؤمّن له بعض حصانته. هي سكيزوفرينيا بعض الغرب. هي حالة إنكار الضحية نفسها. ورفض القتيل التعرف إلى قاتله. تماماً كما حالة ذعر المرأة المغتصبة التي ترفض التعرف إلى صورة مغتصبها (على فكرة، مفردة اغتصاب في اللغة العربية لا تعبر عن الفعل الحقيقي ولا القانوني لحالة الاغتصاب. بل هي مجرد فعل استيلاء على شيء. ربما لأن المرأة وعرضها ههنا شيئان للرجل لا غير! ما جعل أهل اللغة يعجزون عن إيجاد مفردة أخرى للاعتداء على المرأة وجسدها كإنسان وكمقدس). حالة إنكار بعض الغرب، تكمن في رفضه الإقرار بمسؤولية الإرهاب الإسلاموي أولاً. من أجل رفض الغرب الإقرار بمسؤوليته هو عن نمو هذا الوحش. كما تكمن في التغطية المستدامة على المسؤوليتين، في بحثه عن ذرائع من نوع تنمية وتربية وتحاليل نفسية، تماماً كتلك التي يستخدمها البعض من دجّالي القانون، لتبرئة مرتكبي الجرائم المتسلسلة. هكذا يصير موجب التحفظ عن صورة الدم في بعض الإعلام الغربي الموجّه، ملازمة لموجب التحفظ عن هوية المجرم. ممنوع ذكرها، تحت طائلة اتهامات العنصرية والإسلاموفوبيا والتمييز وآخر معزوفة حالة الإنكار المرضية. كل ذلك، فيما عقود التسليح والتمويل سارية، على طريقة «بزنس آز يوجوال»، مع أنظمة توليد الحقد وتصدير العنف وتمويل ماكينته الوحشية.
ما الذي يمكن أن يكسر حلقة الإرهاب المقفلة هذه؟ نظرياً أمر من اثنين: إما امرأة حرة في فضاء البؤس الإسلاموي، وإما رجل حر في السياسات الغربية.