أصدر البنك الدولي تقريره الدوري «النظرة إلى اقتصاد لبنان» بعنوان «The Great Capture». تعريب هذه العبارة ليس سهلاً، فهي تعني أن ما يمكن تسميته «النخبة» في لبنان تقبض على السياسة والاقتصاد والأمن. خلاصة التقرير أن اقتصاد لبنان «هشّ»، لكنه قادر على «مقاومة» العوامل السلبية، إلا أن الأمر يختلف في رأي الوزير السابق شربل نحاس، إذ ان هذا النظام بات يتطلب عوامل غير مستقرّة لتغذية استمراريته، فهو يعمل على تعديل المجتمع في سبيل استمراريته بدلاً من أن يعدّل النظام لخدمة المجتمع.
تفكك الهيكل السياسي

عرض التقرير في ندوة أقيمت في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية، فقدّم الخبير الاقتصادي لدى البنك وسام الحركة خلاصة عن التطورات الاقتصادية خلال الاشهر الستة الماضية وتوقعات النمو لعام 2015، فيما ناقش التقرير الوزير السابق شربل نحاس والمدير العام السابق لوزارة الاقتصاد فادي مكّي.
البنك الدولي: تزايدت الرشى والمحسوبيات ما أدى إلى تفكك في الهيكلية السياسية


التقرير يتحدث عن فشل منهجي في «الحوكمة»، من ضمن بيئة يستشري فيها الفساد، فضلاً عن «تقهقر هيكلية النظام الحالي في لبنان. الشلل السياسي يستمر في الزحف نحو السلطات الحكومية بفروعها الثلاثة وهي أمست معطّلة أو فارغة». من صلب هذا النظام «تزايدت ممارسات الرشوة والمحسوبيات والواسطة في القطاع العام، وفشلت تلك الإدارات في تقديم الخدمات الأساسية، ومعالجة الاحتياجات الطارئة، ما أدى إلى تفكك في الهيكلية السياسية وإفراغ أو تعطيل السلطات الحكومية، كما ألغيت المنظومة الانتخابية الوطنية الوحيدة في البلاد... الوضع الحالي غير قابل للاستمرارية وإذا لم تفعَّل الجهود الإصلاحية جدّيا فليس من المستبعد أن تتفاقم الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية.
هذا الوضع يتلازم مع سلسلة من الفشل «في تقديم خدمات عامة موثوق بها سواء في الكهرباء والماء، فيما برزت أزمة النفايات بوضوح مع تراكمها في الشوارع في أكوام تعيق النفس والبصر وقد أشعلت حراكاً شعبياً ضخماً». وإلى جانب ذلك «لا يزال لبنان يواجه تحديات جسيمة ناجمة عن الحرب في سوريا بما في ذلك استضافة أكبر نسبة من اللاجئين مقارنة بالعدد الإجمالي لسكان البلد». يعرض التقرير بعض المؤشرات في الاقتصاد الكلّي، ومنها انتعاش السياحة، إذ زاد عدد السياح بنسبة 16.6%، واستمرار السياسة التوسعية لمصرف لبنان من خلال زيادة القروض المدعومة في السوق بقيمة مليار دولار. كذلك جاء انخفاض أسعار النفط ليخفض التحويلات من الخزينة إلى كهرباء لبنان، ويقلّص العجز في الحساب الخارجي بنسبة 5%... إلا أنه في المقابل، كانت هناك بعض المشاكل في القطاع العقاري الذي فرض «أعباء على النمو الاقتصادي».

تغيرات ديموغرافية

باختصار، يقول الحركة، إن اعتماد اقتصاد لبنان على مصادر النمو التقليدية لم يعد كبيراً، بل بدأت مصادر نمو ثانية تتقدّم مثل الاستهلاك الخاص المدعوم جزئياً بالطلب السوري الناتج من اللاجئين السوريين. المعروف أن مصادر النمو التقليدية هي السياحة والعقارات والقطاع المالي وكلها عانت كثيراً من الأزمة الإقليمية، أما المصادر الثانية، فهي كل ما يتعلق بالاستهلاك الخاص، وخصوصاً في مجال الأدوية التي زاد الطلب عليها كثيراً، والتكنولوجيا الرقمية إذ سجّل لبنان زيادة في الولوج إلى الانترنت من 52% في 2011 إلى 74.7% في 2014.
ولا يغفل التقرير الإشارة إلى العناصر اللازمة والضرورية لتغذية النظام المالي في لبنان، مثل معدل نمو الودائع، مكرراً ما يقوله عن سوق العمل «الحبلى» بالعمالة المتدنية الاجر والقاصرة عن خلق الوظائف وتلبية الطلب على العمل «وهو ما قد يؤدي إلى تغيرات ديموغرافية»... باختصار يعتقد الحركة أن الاقتصاد في لبنان سبقى هشّاً وأقل من قدرته الفعلية، ولن يكون اقتصاداً قوياً من دون الإصلاحات اللازمة.

المجتمع غذاء النظام

المشكلة في رأي نحاس، إن هذا النظام يغذّي استمراريته بطريقة غير تقليدية. أي ان الاستنتاجات المتعلقة بتشخيص النظام ومساوئه وارتباطه بالتدفقات الخارجية ومظاهر الفساد بين مفاصله، لا يمكن إخفاء لكونها أصبحت من الأمور الضرورية لاستمرار هذا النظام. هذا النظام المالي القائم على استقطاب الأموال من الخارج من أجل تمويل عجز الحساب الخارجي، يعمل باستمرار على توليد يد عاملة قابلة للهجرة لاستقطاب المزيد من التدفقات الخارجية. أي مقاربة لا تشير إلى أن القطاع المصرفي هو عامل أساسي في النظام الذي يعمل على تمويل العجز الخارجي، هي مقاربة لا يمكن التعويل عليها إذ ان كل أرباح المصارف متأتية من المال المدعوم.
وبالتالي إن «قدرة النظام على التأقلم مع الأوضاع الصعبة ناتجة من كونه أصبح يتطلب عوامل صعبة وغير مستقرّة تغذّي استمراريته». فعلى سبيل المثال، إن الناتج المحلي الإجمالي زاد بنسبة 2%، فيما زاد عدد المقيمين في لبنان بنسبة تزيد عن 25%، لكن الناتج الفردي القومي تراجع بنسبة لا تقل عن 20%، والسبب هو أن الزيادة السكانية أدّت إلى تدني الدخل الفردي وقلصت الحاجة لمزيد من التدفقات، وبالتالي فإن هذه العوامل غير المستقرّة تحافظ على النظام وعلى استمراريته. لا بل يمكن الاستنتاج بأنه يجري «تكييف المجتمع مع استمرارية النظام، أي تعديل المجتمع ليبقى النظام بدلاً من تعديل النظام لتلبية حاجات المجتمع. أصبحت استمرارية النظام ضرورة وظيفية بحيث يجري تكييف كل شيء مع مستلزمات الاستمرارية».
إنطلاقاً من هذا الأمر، يسجّل نحاس على البنك الدولي مسؤوليته في تقديم المؤشرات الاقتصادية ومقاربتها. حالة الترابط السياسي بين النخب من جهة والاقتصاد والسياسة والأمن من جهة ثانية، تمثل حاجزاً أمام أي تعديل، وبالتالي فإن المحاولات الجارية أو التي جرت في الظرف المناسب لم يشجّعها البنك الدولي، الذي يضع هذا التشخيص للنظام ولا يستخلص منها أي نتائج، فهو يقول اليوم إن النظام يقاوم لكن البلد في حالة مزرية. أي خلاصة هي هذه؟ من يتحمل مسؤولية التغيير؟ ومن يتحمّل مسؤولية إدارة التغيير؟