دعاني صديقي إلى حفلة يقيمها لمناسبة زواجه للمرة الثالثة، ماتت زوجته الأولى وطلَّق الثانية وها هو يتزوج بعد أن تجاوز الخمسين من فتاة في الثالثة والعشرين.
كان غنياً، يسكن في بيت حديث من ثلاثة طوابق، رأيت خرافاً مربوطة قرب الباب حين وصلت وأطفالاً يرقصون ويدقون على صفائح الزيت، ورأيت نساءً في الشرفات وخلف النوافذ، كانت الحديقة حيث ستجري الحفلة تزدحم بعشرات الرجال بالإضافة الى مطرب يغني مع فرقة موسيقية، جلست على أقرب مقعد من دون أن أثير انتباه أحد، وتدريجياً بعد جلوسي غرقتُ في بحر متلاطم من الضجيج، لم أعد أعرف من أين تأتي الأصوات ولا إلى أين تذهب، كانت هناك مكبرات صوت في كل مكان تكرّر ما يغنيه المطرب، استمرت تيارات المدعوين بالتدفق على الحديقة وكان كل منهم يجد مكاناً لجلوسه بطريقة ما، يحشر نفسه بين آخرين على أريكة أو يشارك شخصاً آخر في مقعده أو يجلس على الأرض أو يتسلق الجدار أو يقرفص مثل طير على غصن شجرة، لم يعبأ أحد بالعريس حين جاء، وضاعت أصوات الإطلاقات النارية التي أطلقها الرجال المحيطون به في بحر الضجيج، ظلَّ واقفاً للحظات ثم وجد مكاناً على مقعد يحتله رجل ضخم يعتمر ما يشبه العمامة ولكنها ليست عمامة ويرتدي قفطاناً ولكنه ليس قفطاناً ويمسك بمسبحة سوداء ذات خرزات كبيرة كرؤوس الغربان، تصدر عنها طقطقة مستمرة يرافقها بين لحظة وأخرى صوت نحنحة شبيه بالرعد يمكن تمييزه برغم الضجيج، سكت المطرب فجأة واختفى مع فرقته وصمتت مكبرات الصوت ثم بدأ مهرجان الأكل، تلاحق الرجال من الداخل وهم يحملون صحون الطعام وأوعية الشراب مع الملاعق والسكاكين والأقداح وقاموا بتوزيعها على الموائد في وسط الحديقة وجوانبها، وخلال دقائق لم يعد يسمع سوى أصوات القضم وصرير الأسنان واحتكاك الملاعق بالصحون، كان الأكل وفيراً ومتنوعاً واستمرت الأطباق بالتدفق طوال الوقت، كان بامكان أي شخص أن يمد يده ويلتقط ما يريد، يملأ طبقاً وينهيه أو يتركه ليملأ طبقاً آخر، ظلَّ الرجل الضخم في مكانه حين نهض الجميع، اتضح أنه أعمى أو ربما كان يدعي ذلك، وضعوا مائدة صغيرة أمامه وجاؤوا له بأطباق من كل الأصناف، واصل هو التهامها وكلما أكمل عدداً من الأطباق تنحنح ليأتوا له بالمزيد، بدا فمه وهو يأكل مثل فم حوت، يرفع الدجاجة المشوية ويقذفها فيه فتضيع بلا أثر، يقضم فخذ الخروف المشوي كأنه قطعة بسكويت، يلتهم الأسماك كأنها حبات عنب، يلقي بصحون الرز والمرق الحارة صحناً بعد آخر في جوفه ويعقبها بأرغفة الخبز ورؤوس البصل والفجل والفلفل ثم يتنحنح طالباً صحوناً أخرى، بعد نصف ساعة ملأ جميع المدعوين بطونهم وعادوا الى أماكنهم الّا هو، ظلَّت صحون الطعام تتلاحق على المائدة أمامه وظلَّ هو يزدردها ويتنحنح، جاء أحدهم من الداخل وأعلن أن الطعام نفد وأن جميع القدور قد فرغت ولكن الرجل الضخم ظلَّ يتلمّظ ويتمطق ويتنحنح فاتحاً فمه على اتساعه، جاؤوا له بما تبقى في الصحون التي تركها الآخرون فابتلعه وجمعوا ما ألقوه في براميل الزبالة فألقاه في جوفه، طلبوا طعاماً من الجيران فالتهمه، أحضروا له ما وجدوه في المطاعم القريبة التي كانت على وشك الاغلاق فلم يستغرق نقلها الى ظلمات معدته سوى بضع دقائق وحين انتهى رفع رأسه الى الأعلى وتنحنح، احتاروا ماذا يفعلون، كان صوت تنحنحه يزداد ارتفاعاً وصخباً في كل لحظة، مدَّ يديه العملاقتين ورفع المائدة التي كانت أمامه والتهمها ثم اقتلع الشجرة القريبة منه وغيّبها بين فكيه وفعل الأمر نفسه مع الكراسي التي تحيط به، أمسك بالعريس وافترسه ثم نهض وسدَّ بقامته العملاقة باب البيت وبدأ بالتهام الأشخاص في الحديقة واحداً بعد الآخر، كان حجمه يتضاعف وكان فمه يزداد اتساعاً، حاولت أن أهرب كما حاول آخرون ولكن دون جدوى، امتدت الينا يده الحديدية ورفعتنا وقذفتنا في الجوف المظلم، رأينا دهاليز ومغاور وأقبية وسراديب ونحن ننزلق الى الأسفل ثم رأينا شوارع فيها شاحنات ودبابات ومدافع وباصات ودكاكين تعرض في واجهاتها مسدسات وبنادق وقنابل وخوذ جنود وخناجر وسيوفاً وأعلاماً وكتباً ومجلات ومكائن خياطة وعدداً يدوية وتلفزيونات وثلاجات وساعات وأسماك زينة وفوانيس وتماثيل ولوحات وقادتنا تلك الشوارع الى مقابر وملاعب ومستشفيات ومقاهٍ ومطاعم ودور سينما ومسارح وملاهٍ ليلية وبيوت دعارة وغابات تتجول فيها أسود وذئاب ودببة وزرافات وقردة وثعالب وخنازير وطواويس وتحلّق في سمائها عصافير وحمائم ونسور وبوم ونوارس وزيغان وزرازير وخفافيش وطائرات حربية وطائرات نقل وهيليكوبترات ومناطيد ومركبات فضائية، كان العالم هناك شديد الظلام وحزيناً وكنا نحن القادمون الجدد اليه نسير بلا هدى، حائرين، لا ندري الى أين نذهب.
* كاتب عراقي