في قاعة التدريب، التي اتخذت من الطائرة القديمة الطراز التابعة لشركة طيران الشرق الأوسط، مكاناً لها، ستعلق عيناك بصورة لتسع فتيات جميلات. صورة لا مجال للعبور من أمامها، من دون التحديق بابتساماتٍ عفوية، لا تزال مثيرة، وإن كانت سنوات كثيرة قد عبرت فوقها، لكن، ليست الابتسامات وحدها التي فتر بياضها، ما يوحي بالعمر الذي مرّ. الزيّ أيضاً، الذي كان يشبه لون السماء، وكذلك حكايا الوجوه المعلّقة على الحائط، التي لم يبق منها إلا واحداً «أعرفه»، تقول سارة (اسم مستعار)، التي تعمل في شركة طيران الشرق الأوسط منذ خمسة عشر عاماً.
ثمانية عشر عاماً مرّت على تلك الصورة. وتباعاً، غابت غالبية وجوهها. تمدّ سارة يدها، مشيرة إليها، وتستعيد حكايا البعض فيها. تذكر بأن إحداهن غلبها مرض السرطان، وأخرى لم تعد تقوى على الوقوف لساعات في الرحلات الطويلة، وأخريات فقدن ابتسامتهنّ الحلوة وقوامهنّ الرشيق. «انتهين»، تقول سارة ممازحة. ثم، تردف بجدّية مطلقة «الحفاظ على مظهر أنيق وقوام رشيق شرط أساس للعمل كمضيفة».
سارة، الشابة التي لا تزال تحافظ على «البشرة الصافية»، التي تضمن بقاءها مضيفة، توقن بأن جمال وجهها، الذي لم يفتر بعد برغم تقدّمها في العمر، كان جواز عبورها إلى «السماء»، وإن كانت، في الوقت نفسه، لا تنفي ميزاتها الأخرى التي تعدّها بمثابة «push» (دفع)، حققت من خلاله الحلم.
تنفرج شفتاها عن اللآلئ البيضاء، ثم تستدير برشاقةٍ، لم تغيّرها الولادات الأربع. استدارة «توب موديل»، قد تُنسي في لحظة الطيران، «رعب ارتفاع التسعة آلاف قدم عن مستوى الأرض»، يقول أحدهم ممازحاً. مزحة تحيل إلى الكثير من الأسئلة عن ماهية تلك الوظيفة التي يفترض أنها تحمل هدفاً واحداً هو خدمة المسافرين جواً: كيف يجري توصيف هذه المهنة؟ وما هي الشروط التي تفرضها شركات الطيران لقبول المرشّحات؟

شروط الترشّح

الداخل إلى المواقع الإلكترونية التابعة لشركات الطيران، وتحديداً إلى الرابط المتعلّق بالمهن/ شروط التقدم إلى وظيفة المضيف/ة، يمكن أن يخرج بالخلاصة التالية: كوني جميلة و«طيري». هذه الخلاصة تعيد إلى الذهن صور الفتيات الجميلات في إحدى الحملات الإعلانية الإنتخابية، والعبارة اليتيمة التي كانت تذيّلها: كوني جميلة وصوّتي.
أما بالنسبة إلى الشروط الموجودة على تلك المواقع، فهي متشابهة إلى حدٍ ما، ويمكن أن نأخذ الشروط التي تطلبها شركة طيران الشرق الأوسط، كمثال هنا.
على الخطوط الأوروبية تعمل مضيفات بعمر الخمسين ويؤدين عملهن على أكمل وجه
فلكي تكوني مضيفة، بحسب «دفتر الشروط»، عليك أن تكوني «لبنانية ما بين 21 و27 عاماً. أنيقة. بشرة صافية. صحة جيدة. نظر سليم. القامة متناسبة مع الوزن، تجيدين السباحة وتتكلمين بلغات ثلاث (العربية والإنكليزية والفرنسية)». وإلى ذلك كله، سيضاف شرط المستوى التعليمي الذي لا يزال عالقاً عند الشهادة الثانوية.
وإذا ما افترضنا أن المستوى التعليمي تطوّر، إذ باتت الإجازة الجامعية أمراً مفروغاً منه بالنسبة لكثيرين، يمكننا الاستنتاج إأن الشروط «محصورة بالجميلات»، تقول لارا، المضيفة في إحدى شركات الطيران. الشابة التي يلقبونها بالفراشة لرشاقتها، تقول «في الشركة عندنا، المظهر الخارجي له الجزء الأوفر من قبول المرشحات إلى المهنة».

امتحان وتدريب

هناك شروط أخرى للحصول على الوظيفة، تخبرنا عنها فرح مكي التي كلّفتها شركة طيران الشرق الأوسط، الإجابة عن أسئلتنا. تقول إن المتباريات «يخضعن لثلاث مراحل، أوّلها غربلة الملفات واختبار الجمال». وتشير مكي إلى أنه خلال تلك المرحلة «تحضر المرشحات بتنانير تساعد على إبراز القوام، وخلال الإختبار يرفعن شعورهن لرؤية الوجه، ومن ثم يجري اختبار بعض المعلومات حيث يُسألن عن سبب اختيارهنّ لهذه المهنة، وغيرها من الأسئلة التي تحاول فهم بعض جوانب الشخصية». بعدها، تأتي المرحلة الثانية «حيث تخضع المتباريات لمقابلة لجنة مؤلفة من رئيسة المضيفين والمضيفات، وممثل عن إدارة الموارد البشرية، مهمتها اختبار معلوماتهن العامة». ومن يحالفهن الحظ بتجاوز تلك المرحلة «يلتقين رئيس مجلس إدارة الشركة ورئيس الدائرة».
لكن، لا ينتهي الأمر عند هذا الحد، إذ «تخضع المتباريات اللواتي اجتزن المرحلة الأخيرة، بعد ذلك، لمرحلة تدريبية مدتها ثمانية أسابيع تنتهي باختبار داخلي، وآخر في الطيران المدني، تحصل بعدهما على إجازة تخولها البدء في ممارسة العمل». ما تنتهجه شركة «أجنحة الأرز»، يصلح في شركات أخرى، إذ يجري في غالبيتها التركيز على الناحية الجمالية في الدرجة الأولى، على أن تتبعها اختبارات قد تصلح لاكتشاف الشخصيات «القيادية»، يقول أحد المضيفين العاملين على متن شركة خطوط الطيران الإماراتية. صاحب هذه الشخصية يجري اكتشافه بناء على ثلاث مراحل أيضاً «تطرح أسئلة بسيطة، ولكن ذكية، تعمل على اكتشاف الشخصية التي تستطيع القيادة». وبموازاة ذلك، يخضع المتبارون في الشركة نفسها لاختبار نفسي (psychometric test) يساعد على استكمال الإكتشاف.

صبر أيوب!

وتؤكد مكي أهمية أن تتمتع صاحبة الوظيفة بصفات القائد. أي «أن تجيد التعاطي مع الزبائن، وأن تتقن فن الخطاب، والتواصل وأن تكون سريعة البديهة، إضافة إلى التحلي بالصبر». والنقطة الأخيرة مطلوبة بقوّة في الجو، إذ «لا تخلو الرحلات من مسافرين يحاولون استفزازنا، ولذلك علينا أن نكون صبورين إلى أقسى الدرجات»، يقول حسن (اسم مستعار) أحد المضيفين في شركة طيران الإمارات.
هي مهنة «صبر أيوب» أيضاً. هذا عنصر يمكن إضافته إلى «الطلّة» إذاً... وإن كان الصبر ليس كافياً عند البعض. فإذا ما اخترنا عينة عشوائية من المسافرين وسألناهم عن كيفية تعاطي المضيف/ة معهم، ستأتي الأجوبة على عكس طريقة أيوب. الكثيرون يعانون من لامبالاة المضيفات: «وكأنهنّ مسافرات معنا»، تقول إحدى المسافرات. ثم تضيف بأنهن «دائماً مشمئزات، والشيء الوحيد الذي يجعلهن يتحدثن إلينا هو لسؤالنا ما إذا كنا نريد Tea or Coffee».
وتشير تلك المسافرة إلى أنه في إحدى المرات «طلبت إحدى الأمهات من المضيفة ما إذا كان هناك طعام خاص بالأطفال، ليأتيها الجواب (شو فاتحين حضانة هون مدام؟)». ويقارن البعض بين بعض المضيفات على الخطوط الجوية العربية، والأخريات على متن الخطوط الغريبة، فيجدن فرقاً شاسعاً على الأقل في «النظر إلى مهنة المضيفة، فعلى الخطوط الجوية الأوروبية مثلاً يمكن أن تجدي مضيفة بعمر الخمسين عاماً ولكنها تقوم بعملها على أكمل وجه، أما هنا فالمضيفة يفترض أن تكون ملكة جمال، تلك التي يجري اختيارها لتمثيل صورة بلدها»، يقول مسافر آخر.

صورة لبنان

هذه الصورة لم تأت من العبث. فهنا، ينظر الكثيرون إلى المضيفة كملكة جمال، حتى المسؤولون في شركات الطيران. فعندما بادرنا بسؤال أحد العاملين في شركة «أجنحة الأرز»: ماذا لو كانت المرشحة لهذه المهنة تتمتع بالقيادة مثلاً وبقوة الشخصية ولكنها «عادية الجمال»؟ سرعان ما أتى الجواب: «الأفضل إنو تكون حلوة».
المحافظة على
الوزن شرط أساس للاستمرار في
العمل واختلاف قياس الثياب معيار


هذه «الأفضل» مثلاً، كانت عائقاً أمام كثيرات لعدم التقدّم إلى المهنة الحلم، فيما كانت دافعاً لفتيات أخريات يملكن من الجمال ما يكفي للتفوق على الشروط الأخرى. هكذا مثلاً، وجد وسام أن شكله كان جواز مروره إلى تلك المهنة. حسن الذي يئس من انتظار الوظيفة التي تلائم اختصاصه في المحاسبة، قرر أن يستمع إلى ما «كانت تقوله لي صديقتي دوما: إنت حلو ليه ما بتعمل مضيف؟ بيلهفوك لهف». علقت الجملة في رأسه، وعندما لم يجد ما يفعله على الأرض، طار. يقول «ملأت استمارة على موقع إحدى الشركات وأرفقت الصورة بها، وبعد أيامٍ قليلة اتصلوا بي وخضعت للإختبارات ونجحت».
اليوم، يعبر وسام عتبة عامه الرابع في الشركة. ارتفع عدد المعجبين، «الفانز»، على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي. صار يهتم بصورته «أكثر من ذي قبل، إذ يصبح لزاماً عليك الاهتمام بمظهرك أكثر، فأنت صورة هذا البلد». والأهم من ذلك كله «كنت أحلم بالسفر، فإذا بي أزور 35 بلداً في أربع سنوات».
قبل ستة عشر عاماً، حلمت نجوى بالسفر إلى روما. أسرّت لوالدها بحلمها، فلم يتقبّل الفكرة كثيراً. مع ذلك، لم تعدل عنها. أبقتها حلمها، ودخلت كلية الإعلام والتوثيق وكلية التربية، اختصاص الرياضة البدنية. وفي السنة الثانية من اختصاصيها، تقدّمت إلى إحدى شركات الطيران ونجحت واختارت العمل بدوام جزئي «يسمونه دوام باترفلاي (الفراشة)». حققت نجوى حلمها واستمرت في الدراسة «لأجل والدي فقط». مع ذلك، أنهت دراستها، فعلقت شهادتها الأولى على الحائط، وعملت عاماً واحداً في شهادتها الثانية كمدرسة للرياضة البدنية، ثم توقفت «لأنني لم أجد نفسي».
توفي الوالد، وكان على نجوى سدّ الفراغ الذي خلّفه. عندها، عدلت عن التعليم وانضمت بدوامٍ كاملٍ إلى الشركة.
تزوجت وأسست عائلة من أربعة أطفال، «ولم أفكر يوماً في ترك مهنتي، فقد أدمنتها».، لكن، ما الذي قدمته هذه المهنة إليك؟ نسأل، فيأتي الجواب مصحوباً بابتسامة: «كل شيء، بتصير الشخصية أقوى، وبتتعرفي على كتير حضارات، وبتختلطي بثقافات جديدة، وبتزوري بلدان جديدة». باختصار «بتصيري أوبن أكتر (منفتحة)». كما أثرت تلك المهنة على نمط حياتها. هكذا، صارت نجوى أكثر التفاتاً لصورتها «لم يعد بإمكاني إهمال مظهري»، كما صارت أكثر إلماماً بـ«الأكلات الغربية، كلما عدت من بلد، فاجأت أطفالي بأكلات جديدة».
تتحدث نجوى عن مهنتها بكثير من الفرح. لا تزال بالنسبة لها الوظيفة الحلم. تتذكر انها عندما كانت طفلة، وكانت تشاهد المضيفات، كانت تردّد في سرّها «يا ريتني محلهن». اليوم، صارت مثلهن. تحطّ كل يومٍ في بلد، حتى إنها لم تعد تذكر كم من بلد زارته بعد روما، التي كانت أول أحلامها.


السفر والشوبينغ

الحلم بالسفر هو أول الدوافع لاختيار مهنة المضيفة، لكن، ثمة أحلام أخرى، منها مثلاً «الشوبينغ»، تقول سمر، ثم تستطرد ممازحة «أجمل ما يمكن أن أحلم به بعد السفر، هو شراء الثياب من البلاد التي قد أزورها»، ثم تردف بابتسامة: «في احلى من هيك، خزانة تياب عالمية!».
كل هذه المزايا التي تقدّمها المهنة، تفترض شيئاً واحداً: الحفاظ على المظهر. هذا ما يقوله منطق العمل كمضيفة. وهذا يتطلب الحفاظ على الوزن، «يعني أن أحافظ على وزنٍ مثالي يتناسب مع مظهري، إذ إنه في نهاية كل عام، وعندما يقومون بتجديد رخصنا، نخضع للجنة طبية، النظر والأسنان وخلو الجسد من الامراض إضافة إلى الوزن وهو أساس»، تقول سمر. يعني «إذا بتلبسي ميديوم (M) لازم تضلي ميديوم أو في أسوأ الأحوال بتطلعي لارج (L) وإلا فسيوجّهون لك إنذاراً بضرورة تخفيض الوزن، على أن تأخذي إجازة لفعل هذا الأمر».
وكذلك الأمر بالنسبة للحمل، فعندما تعرف المضيفة بأنها حامل «يفضّل أن تخبر الشركة بالأمر، حتى لو في الأشهر الأولى، إذ إن نظام الشركة يفرض عليها ترك العمل منذ علمها بحملها لمدة سنة، وتكون في إجازة من دون راتب. وعندما تعود، تخضع لكشف اللجنة الطبية، ولفترة تدريبية مدتها 3 أشهر». وخلال تلك السنة، يُفترض بالأم الجديدة أن تعيد وزنها إلى ما كان عليه وإلا فلا عودة لها إلى العمل».
هكذا، هذه هي المهنة ـ الحلم. جسد يتناسق مع الوزن، ووجه جميل. هذا جلّ ما تحتاجه المضيفة. أما ما عدا ذلك، فالمطلوب ليس أكثر من «أن تصعدي إلى الطائرة، وتقدمي الخدمة. وعندما تنتهين، فإما تنامين في الفندق، أو تقومين بالتسوّق ثم تنتهي الرحلة وتعودين إلى المنزل وتنسين كل ما حدث على متن الطائرة»، تختم سمر.