تتثاقل المياومة في شركة KVA، إحدى شركات مقدمي الخدمات، الخطى باتجاه مقر عملها في مؤسسة كهرباء لبنان. تعود السيدة الثلاثينية للتو من جلسة العلاج من مرض السرطان وقد علت وجهها ملامح التعب والإرهاق. يهز المشهد زملاءها في العمل فيسألون عن مجيئها إلى هنا وهي في هذا الوضع الصحي الدقيق، تخبرهم ان الشركة التي تعمل فيها ابلغتها انها غير مسؤولة عن كلفة علاجها وانها ستحسم من راتبها كل يوم تغيب فيه، ولو بعذر شرعي يلحظه القانون! ينتفض العمّال بصورة عفوية، يقفلون صالة الزبائن في مؤسسة الكهرباء احتجاجا على ما يعتبرونه ممارسة تعود الى مرحلة الرق والعبودية. هذا الأمر المعيب، كما يسميه مصدر في لجنة المياومين، «دفعنا إلى الإصرار على المطالبة بتسوية وضع زميلتنا». يسأل: «كيف يمكن الشركة أن ترسل شيكاً بـ140 ألف ليرة للزميلة بعد حسم معظم راتبها؟» (هي القيمة التي تبقت لها من راتبها بعد حسم ايام الغياب بداعي اجراء جلسات العلاج)، ولفت إلى أنّه من المفترض ان لهذه الموظفة رئيس دائرة يعلم تفاصيل وضعها الصحي. المياوم جاد الرمح يسأل هو أيضاً بتعجب «واحد جايي من جلسة علاج كيف بدو يكون قادر يداوم؟».

هذا التضامن العمالي استغربه مدير شركة KVA، ماهر عيتاني. لم يعجبه ذلك. يقول لـ«الأخبار» إن القضية «أخذت أكبر من حجمها»، مشيرا الى أنّ «الشركة تأخذ الجانب الإنساني بالاعتبار، لكنها تلتزم تطبيق القوانين والأنظمة، وبالنهاية هناك عقود». اي عقود؟ هل تسمح القوانين والانظمة بالزام العاملة بالحضور الى العمل على الرغم من وجود عذر المرض والحاجة الى العلاج؟ قانون العمل اللبناني، على الرغم من اجحافه، ينص على اجازة مرضية تمتد الى شهرين ونصف شهر بأجر كامل، وشهرين ونصف الشهر بنصف أجر للأجير/ة الذي تفوق خدمته عشر سنوات، وهو ما ينطبق على حالة المياومة المعنية التي تعمل في وظيفتها في مؤسسة الكهرباء منذ اكثر من عشر سنوات. وبحسب احكام القانون نفسه، «كل اتفاق مخالف لهذه الأحكام هو باطل حكماً».
يقول المياومون إنهم تلقوا وعداً بتسوية وضع زميلتهم، وقد علّقوا احتجاجهم على هذا الاساس، الا ان عيتاني ردّ على اسئلة «الاخبار» في هذا الشأن بالقول: «بدنا نشوف كيف يمكننا مساعدتها».
حالة المياومة في شركة KVA تعيد طرح قضية الحق بالصحّة الى جانب حقوق العمال والعاملات في مكان العمل. لائحة الامثلة عن انتهاكات هذا الحق في ظل النظام القائم لا تُحصى ولا تعد، فالكثير من الناس «يُقتلون» بسبب غياب التغطية الصحية الشاملة. قبل يومين، توفي أحمد عبد المجيد بسبب رفض مستشفى اليوسف في عكار استقباله بحجة عدم وجود مكان له، رغم حالته الحرجة نتيجة تعرضه لحادثة اصطدام جرافة. هذا السلوك ليس مستجداً بل دأبت عليه المستشفيات منذ وقت ليس بقصير، إذ يكفي التذكير بما حصل عام 2014 مع حسين قطايا (49 عاماً)، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة، إذ لم يشفع له ذلك أن يجد سريراً في أحد مستشفيات بعلبك يساعده على اجتياز ازمته الصحية، وما لبث أن فارق الحياة بعد أكثر من 4 ساعات قضاها متنقلاً من مستشفى إلى آخر. يوجد اطفال ماتوا امام ابواب المستشفيات، ويوجد اخرون ماتوا لعجزهم عن الحصول على العلاج من امراض اصيبوا بها وتجاهلوها بسبب الفقر.

كيف يكون
القانون الزامياً وهو يجبر دفع بدل للحصول على البطاقة؟

في هذا الوقت، لا يزال المسؤولون يمعنون في حرمان نحو نصف اللبنانيين المقيمين أي تغطية صحّية، فيطيحون أي أمل لهم بإقرار مشروع التغطية الصحّية الشاملة الذي طرحه وزير العمل السابق شربل نحاس، والذي يحصل بموجبه كل لبناني على الخدمات الصحية الأساسية من استشفاء وطبابة ودواء وفحوص، بتمويل من الضرائب على الريوع والأرباح.
أمس، استكملت لجنة الصحة النيابية ما سمته القراءة النهائية لاقتراح قانون البطاقة الاستشفائية «الإلزامية». هذه البطاقة ترسي نظاماً خاصاً للمحرومين من الضمان بصفتهم فقراء، لا بصفتهم مواطنين لهم حقوق على الدولة، والاقتراح يحصر التقديمات بالمستشفيات الحكومية ومختبراتها بحسب مناطق إقامتهم ولا يقدّم لهم الطبابة والدواء خارج الآليات التي توفّرها وزارة الصحّة حالياً، بل أكثر، يريد تدفيع كل مضمون بدلاً للحصول على البطاقة ما يلغي مبرر وجوده والاهم يلغي صفته «الالزامية»، فالمادة 7 تنص على ما يأتي: «يلتزم معيل الأسرة بدفع بدل البطاقة الصحية عن نفسه وعن من هم على عاتقه ويمكن لجهة ثالثة عامة أو خاصة أن تأخذ على عاتقها عبء الاشتراكات المذكورة...إذا امتنع المنتسب عن تسديد البدل السنوي للبطاقة الصحية، فلا يمكنه أن يستفيد شخصياً أو يستفيد أحد أفراد أسرته من تقديمات النظام ما لم يسدد البدلات المتوجبة عن فترات سابقة وتفرض عليه في هذه الحالة غرامة مالية قدرها 1.5 % عن كل شهر تأخير ويعتبر كسر الشهر شهراً كاملاً».
ماذا لو كان المواطن لا يريد أن يدفع البدل أو ليس قادراً على دفعه فكيف يكون المشروع الزامياً؟ عضو لجنة الصحة النائب ميشال موسى يوضح لـ «الأخبار» أنّ القانون ليس الزامياً حكماً بسبب وجود بدل، إلاّ أنّ أهميته تكمن في إيجاد مرجعية متخصصة لضبط الاستشفاء العشوائي ووضع مقاييس للرقابة والحد من تحويل وزارة الصحة إلى وزارة استشفاء. وأوضح أنّ هذا القانون يلتقي مع مشروع العائلات الأكثر فقراً في وزارة الشؤون الاجتماعية واقتراح القانون المعجل المكرر الذي طرحه النائب روبير فاضل للقضاء على الفقر. أما عضو كتلة التنمية والتحرير النائب قاسم هاشم، فأكد أن إقرار الاقتراح في لجنة الصحة لا يعني أنّه أصبح نافذاً، إذ سيسلك طريقه إلى لجنة الإدارة والعدل ولجنة المال وسيكون ملك الهيئة العامة، وهناك سيخضع لمقاربات مختلفة ولن يمر بهذه البساطة. الأهم بالنسبة إلى هاشم، هو «عدم تكليف المواطن أعباء إضافية، فالرعاية الصحية حق له والأمر ليس مجرد عملية تنظيمية تقنية»، داعياً إلى تحصين القانون بدراسة شاملة ليؤدي الغرض منه.
لكن رئيس لجنة الصحة النيابية النائب عاطف مجدلاني، عضو كتلة تيار المستقبل، عراب المشروع، يبدو مقتنعاً بأنّ ما حصل «إنجاز» سيؤمن الصحة للناس من دون منة من احد ومن دون ان يحتاجوا الى اي اتصال من وزير او من نائب، مشيراً إلى أنّ هذه البطاقة ستأتي نتيجة تعاون القطاع العام مع القطاع الخاص من خلال نظام وهيئة تعتني بها البطاقة ضمن وزارة الصحة ومتصلة مباشرة بوزير الصحة»، بمعنى ما، ستكون هذه البطاقة جزءا من سياسة سمو «البزنس» على «الحقوق».