الجليل | ها أنا أعود لقلمي من جديد، ظننت أني فقدت قدرتي على الكتابة، لا بل في لحظات، ظننتني فقدت لغتي كذلك. منذ سنتين لم أكتب نصاً واحداً باللغة العربية، ثم انتهى بي المطاف مستنتجة أنني لا أملك لغة أم.نحن نخسر أنفسنا في ظل الصراعات طويلة الأمد على الهوية، أين أنا ومع من، في صف من، ومن في صفي؟ وحيدين نقف جميعاً، مخدرين تماماً كي نستمر.
سابقاً كنت أجيد الحديث باللغة العربية الفصحى بسلاسة، وبكل سهولة، إنها تختبئ لدي الآن في مكان ما في ذاكرتي، أحتاج إلى ترجمة بعض الكلمات من العبرية للعربية، اكتشفت مؤخراً أن هناك كلمات لا أعرف مسماها بالعربية أصلاً.
ها أنا الآن، أخيراً، على أعتاب التخرّج، خمس سنوات في الجامعة لأنهي لقباً مزدوجاً بالقانون والإعلام، على أمل أن أنهيه الآن في سنتي السادسة، حيث يتوجب علي أن أعرف تمام المعرفة إلى أين أذهب، وما هي الطريق التي أريد، السنة الأخيرة هذه، لا بدّ أن أختار مساقات تتوافق ورغبتي الملحة في تعلم ما يمكنني استخدامه في أمر عملي، وتتلائم مع قدراتي وأحلامي، وكان هذا.
اخترت مساقاً أكاديمياً مثيراً للاهتمام حقيقة، مهمّاً جداً بنظري، يدور حول العلاقات العامة الدولية الإسرائيلية وكيفية تحسين صورتها عالمياً، ومن منطلق حاجة الدخول الى أدمغتهم وفهم منظورهم للأمور ودراسة طرقهم في التبرير (ولاحقاً الرد عليهم) ظننت أني وجدت ضالتي في هذا العالم!
الحقيقة أن الذي كان ينتظرني، ورغم أني توقعته مسبقاً، كان يفوق قدرتي على التحمل؛ كان عليّ خلال الدروس تقمص الدور بشكل متقن، وقد فعلت، حقيقة فعلت، حتى أني في أقل من شهر أثبتُّ أن لدي القدرة على فهم وتحليل كل وسائل التبرير التي يتبعونها أكثر من "زملائي" الصهاينة؛ في أحد الدروس استطعت إبهار الدكتور المحاضر (وهو باحث مسؤول في المعهد الإسرائيلي للدراسات اللاسامية التابع لجامعة حيفا) لدرجة أنه سألني بجدية إن كنت أرغب بالعمل في وزارة الخارجية الإسرائيلية مستقبلاً، لأني لا بدّ سأقوم بعمل أفضل من أولئك المسؤولين الذين لا يجيدون تحسين صورة إسرائيل في العالم، سارعت بالقول إني لا افكر بالعمل بالسلك الدبلوماسي أو السياسي، بعد المحاضرة طلب مني التفكير بالأمر بجدية!
حقيقة، إني في تلك اللحظة شعرت شعوراً متناقضاً، من جهة لا بدّ أن اعترف أني شعرت بالفرح، شعرت بالانتصار والتفوق على أولئك الذين من المفترض أنهم زملائي في الدراسة الآن، أولئك الذين سيكونون أنداداً لي في المستقبل، أنا منذ الآن أفضل منهم، أسعدني خفية أني حصلت على تقدير "العدو"، إنه اعتراف بقدراتي لا بد (وهذه ليست أول مرة، لكنها الأهم حتى الآن)، ودغدغت مشاعري فكرة أنه سيُصدم عندما يراني ذات يوم أقف في مواجهته لا إلى جانبه. إلا أنني في ذات الوقت شعرت بكمٍّ هائل من الحقد والغثيان بل وحتى الاشمئزاز من نفسي، كيف أستطيع تقمص دور كهذا من دون أن يرفّ لي جفن، ولو كان لأغراض علمية، وثم شعرت بحزن عميق. يرى بي هذا الدكتور شخصاً لا يجب أن تضيع قدراته ومعرفته هباء وعليه استغلاله في مكان مناسب، في مكان مؤثر، في مكان صحيح. بالنسبة له مكاني الصحيح في قسم إدارة الإعلام بوزارة الخارجية. بالنسبة لي ربما يكون مكاني الصحيح بوازرة الخارجية، لكن ليست الخارجية الإسرائيلية بكل تأكيد. أقف هنا لأفكر قليلاً، لكني لا أملك وزارة خارجية أصلاً، لأني لا أملك دولة، إذا عليّ أن أجد لنفسي مكاناً ما، آخر، في هذا العالم، وإن كنت أعرفه في داخلي، فيجب أن أجده، ربما سأقيم لنفسي دولة. الحقيقة أني أشعر بالغثيان من نفسي لأني جيدة... جيدة في مكان خاطئ!
منذ سنتين لم أكتب نصاً باللغة العربية، أحاول إنهاء لقبي الجامعي، لم أعد واثقة من الطريق التي أسير بها، سأستمر في القول إنني يجب أن أستمر، من دون أن يرفَّ لي جفن، لأن النهاية ستكون كما أردناها دائماً، وإني لا بدّ أنني أقوم بالأمر الصحيح، كيف سأستمر إن لم أقتنع أن ما أقوم به صحيحا؟! سأستمرّ في القول إن كل هذا هو جزء من اللعنة التي ترافقنا منذ ولادتنا كفلسطينيين، لعنة اللجوء، لعنة الاحتلال، لعنة الانفصام!