• عملية ليبيا لن تتكرّر


• أثبتت قدرة الحلف على التحرك بليونة


• الهوة تزداد اتساعاً بين ضفتي الأطلسي



يرى رئيس تحرير مجلة «السياسة الخارجية» الفرنسية، وهو الرئيس التنفيذي لـ«المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية» (IFRI)، دومينيك دافيد، أن «العملية الموحدة للحماية» التي خاضها حلف شماليّ الأطلسي في ليبيا كانت غامضة وفوضوية، ويجزم بأن مثل هذه العملية العسكرية لن تتكرر
نسأل دومينيك دافيد عمّا يستخلصه من قيام حلف شماليّ الأطلسي في ليبيا بـ«العملية الموحدة للحماية»، فيقول: «بالنسبة إلينا نحن الغربيين، إنها غامضة أو محل تفسير متناقض؛ إذ إنها لم تكن عملية أطلسية بحتة، بل هي أكثر تعقيداً من ذلك؛ لأن البداية كانت مع قيام باريس ولندن بمبادرة سياسية مشتركة. في غضون ذلك، لم يكن الحلف معنياً بها مباشرة. وفي مرحلة لاحقة طلب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ورئيس الحكومة البريطانية دافيد كاميرون، من حلف شماليّ الأطلسي التدخل، فتولى القيادة، بينما رأينا الأميركيين ينسحبون جزئياً من العملية. في نهاية المطاف، أصبحت عملية قام بها الحلف الأطلسي، لكنها تتعارض في الوقت نفسه مع قوانينه الداخلية».
وفي شأن مستقبل حلف شماليّ الأطلسي ثمة مناقشات جارية اليوم حول فرضيتين: أولاً، إن العملية العسكرية التي قام بها الحلف في ليبيا بينت أنّ في إمكانه العمل على نحو مستقل نسبياً عن الإرادة السياسية للولايات المتحدة. أي أن من بادر هما فرنسا وبريطانيا، ثم استخدمتا أدوات الأطلسي وإمكاناته، وفي النهاية قررت الولايات المتحدة عدم التحرك في الصفوف الأمامية، وهذا ما دل على أن الحلف قادر على الفعل بطريقة أكثر ليونة عن الماضي. وهذه المسألة هي إحدى المسائل الأساسية المطروحة منذ بداية التسعينيات مع انهيار الاتحاد السوفياتي. وإذا كانت القرارات حينها تتخذ بطريقة جماعية، نظراً إلى خطورة التهديدات السوفياتية الشاملة، إلا أن انتهاء الحرب الباردة أخرج إلى العلن وجود مصالح متمايزة للدول الأعضاء في الحلف الأطلسي، وطرح سؤالاً عما إذا كانت مجموعة دول معينة في الحلف يمكنها الاستعانة بقوات الأطلسي ومعداته للدفاع عن مصالحها الوطنية الخاصة. إذاً، التفسير الأول يمكن تلخيصه بأن العمليات في ليبيا سارت جيداً، رغم أنها جرت وفق سيناريو مختلف عن الخطط التقليدية المعدة سلفاً، وهذا يدل على أن الحلف هو مؤسسة غير جامدة يمكنها التأقلم مع ظروف مختلفة ومتنوعة».
أما الفرضية الثانية، فيمكن إيجازها بالآتي: يمكنكم قول ما تشاؤون؛ إذ لو لم يضع الحلف الأطلسي إمكاناته العسكرية في تصرف فرنسا وبريطانيا، لما جرت العملية ضد ليبيا. وحين نتحدث عن الإمكانات العسكرية، يعني الإمكانات الأميركية، وخصوصاً الجوية، أي من دون موافقة الإدارة الأميركية لا مجال للقيام بأي عمل عسكري من هذا النوع.
وهذه المسائل المرتبطة بمستقبل الحلف الأطلسي وقدرته على التكيف مطروحة منذ الآن في ضوء الانتهاء القريب للعمليات العسكرية في أفغانستان في السنتين المقبلتين. ولهذا فإن النقاش الدائر داخل الحلف الأطلسي مهم للغاية لاستخلاص الدروس بشأن طبيعة هذه المؤسسة العسكرية ودورها في المستقبل. فإذا كان الدرس المستخلص من التكتيك العسكري أصبح معروفاً بأن عقيدة «مواجهة الثورة والعصيان» فشلت، فإن هناك مسائل مستعصية عن علاقة الحلفاء في ما بينهم. فالولايات المتحدة غاضبة جداً من حلفائها الأوروبيين الذين يتأففون من واشنطن لأنهم دُفعوا بالقوة ضد إرادتهم للالتحاق بالركب الأميركي في الحرب الطويلة الأمد في أفغانستان.
هناك درس ثانٍ من الفنون الحربية التكتيكية، ألا وهو أن عملية عسكرية جوية غير مترافقة إلا بمجموعات (ليبية) مسلحة لا يكتب لها النجاح بسرعة، والدليل ما عانته من إخفاقات طوال أشهر. ونعرف جيداً أن العمليات العسكرية التي قامت بها الوحدات الأميركية الخاصة وغيرها من الوحدات الأوروبية على الأرض ضد مواقع محصنة للقوات الموالية للقذافي هي التي حسمت المعركة».
وعمّا إن كان يوافق على قول الجنرال الفرنسي إستيفان أبريال، أحد كبار القادة العاملين في مقر الحلف في نورفولك في فرجينيا، بأن «التدخل العسكري في ليبيا عزز صدقية حلف شماليّ الأطلسي»، يقول دومينيك دافيد: «إنها وجهة نظره؛ لأن الأطلسي كسب الحرب. فالانتصار في الحرب هو الذي يضفي بنحو حاسم الصدقية على من قام بالحرب، حتى ولو أنها لم تكتسب في البداية التأييد الكامل أو أنها لم تكن حرباً كبيرة. وحين ننتصر، نقول إننا كنا على صواب في خوضها، كذلك إن صدقية الآلة العسكرية تعززت. من وجهة النظر هذه، إن الجنرال أبريال محق في قوله، مع أن قصة هذا التدخل العسكري كانت فوضوية، وهذا ما سيحكم عليه المؤرخون؛ إذ تبين أنه يمكن اتخاذ قرارات داخل الحلف، حتى لو اعترض بعض أعضائه. المهم هو الدروس التي نستخلصها، فهل يمكن تكرارها أو تطويرها؟ هذا هو السؤال الجوهري اليوم».
وحين نقول له إن البعض يرى أن مجلس الأمن هو الذي وفّر الغطاء القانوني لهذه العملية، يجيب: «لكن ثمة سؤال سياسي مطروح، هو أن الأطلسي استند إلى قرار مجلس الأمن الرقم 1971 الذي نص على «مسؤولية حماية السكان»، لكن هناك قوى وشخصيات فرنسية وأوروبية ودول أجنبية عديدة تقول بأن الغربيين دفعوا الجميع إلى الموافقة على هذا القرار ثم تجاوزوه فانتقلنا من «مسؤولية حماية السكان» والمدنيين إلى شنّ حرب وقلب نظام حكم، وأعتقد أنه تجاوز فعلاً من الناحية القانونية الشرعية. لكن هل كان ضرورياً من الناحية السياسية؟ إني أترك الجواب للمؤرخين ودعاة التمسك بالأخلاق في التعاطي السياسي».
وهل سيغير حلف شماليّ الأطلسي مفاهيمه الاستراتيجية في ضوء الحرب في ليبيا، فيوسع بالتالي نطاق نشاطاته العسكرية خارج منطقته التي أسس لحمايتهما أثناء الحرب الباردة؟ يقول دومينيك دافيد: «إن إرث الأطلسي في ليبيا وأفغانستان سيكون ثقيلاً جداً في السنتين المقبلتين، والسؤال الذي سيطرح هو: هل ستتغير استراتيجية الأطلسي الذي يقوم بحملات عسكرية خارج أوروبا، المسرح الأساسي لعمله، نظراً إلى انعدام الخطر الآتي من الشرق الروسي؟ الجواب بالإيجاب، وهذا ما نراه منذ بضع سنوات. لا أقول إنه سيكون شرطي العالم؛ لكونه يمثّل المنظمة العسكرية الجاهزة على الدوام من الناحية العملانية لخوض غمار الحرب وبسط الأمن في العالم.
في المقابل، أرى أن هذا «المفهوم الجديد» سيكون ثقيل الوقع في السنوات المقبلة لسببين رئيسيين: أولاً، لأننا نلمس هوة تزداد اتساعاً بين ضفتي الأطلسي؛ فالأميركيون والأوروبيون يستنتجون أن مصالحهم ليست متطابقة. وعلى سبيل المثال، ما جرى في ليبيا أن بعض الأوروبيين قرروا التدخل، بينما كان الأميركيون في البداية لا يرغبون في ذلك. وفي النهاية توصلا إلى تسوية. ثانياً، هناك اختلاف في الوسائل والإمكانات؛ فالأميركيون ضاقوا ذرعاً بالأوروبيين بسبب هذه المسألة، وعبّروا عنها علناً عدة مرات، وكانت آخرها تصريحات وزير الدفاع السابق روبرت غيتس، حيث إنهم يشاهدون بأم العين كيف أن الأوروبيين يخفضون سنوياً موازناتهم الدفاعية، وحين يطلب الأميركيون عتاداً وعديداً لمؤازرتهم في الحرب في أفغانستان، يكون جواب هؤلاء أنه لم يعد يتوافر لدينا الشيء المطلوب. وإذا صادف أن توافر جزء يسير من المطلوب، وضع الأوروبيون شروطاً لنشر قواتهم في مناطق آمنة، وإذا أرسلوا بضعة جنود، فليس لمقاتلة «طالبان» أو المتمردين الآخرين.
أعتقد أن تضاؤل الوسائل العسكرية لدى الأوروبيين والاختلاف في المصالح وعدم الثقة السياسية بين ضفتي الأطلسي منذ الحرب الأميركية على العراق في 2003، هي ثلاثة عوامل أساسية ستكون حاضرة على بساط البحث بين الجانبين. بالطبع، نعرف جيداً الأسباب التي تدفع الأوروبيين إلى خفض موازناتهم العسكرية بنحو متواصل، لكن على المدى القصير والمتوسط تصبح الجيوش محرومة شيئاً فشيئاً قدراتها. والأمر ينطبق أيضاً على الولايات المتحدة، حيث قررت واشنطن خفض 500 مليار يورو من موازنة الدفاع الأميركية خلال السنوات الخمس المقبلة. بالطبع، هذا الإجراء لن يعري الجيش الأميركي، لكنه سيحد من قوته على الانتشار وخوض المعارك الخارجية في هذا المسرح أو ذاك.
وبعدما تلقى الأميركيون ضربتين قويتين على رأسهم في العراق وأفغانستان، فلست على يقين من العقيدة التي ستسود في السنوات المقبلة لدى الولايات المتحدة والأوروبيين. وهنا يطرح سؤال بالغ الأهمية من وجهة النظر الجيو ـــــ سياسية، هل عملية الأطلسي في ليبيا هي بداية لسلسلة «عمليات للدفاع عن الديموقراطية» في أنحاء أخرى من العالم، أم أنها ستكون آخر هذه العمليات التي بدأت منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي؟ إن تقاطع هذه الأسباب السياسية والعسكرية المادية بين ضفتي الأطلسي لن يشير في السنوات المقبلة إلى انطواء هذه الجهات الفاعلة على نفسها، بل ستضطر إلى تخفيف الانخراط العسكري في عمليات حربية على المستوى الدولي».
وحين نسأله عن التحولات التي سيشهدها «الحوار المتوسطي» بين الأطلسي وبعض دول جنوبيّ المتوسط، بعدما كان منصبّاً على التعاون في مجال محاربة الإرهاب بعد 11 أيلول 2011، يقول: «أعتقد جازماً بأن العملية العسكرية التي قام بها حلف شماليّ الأطلسي في ليبيا لن تتكرر، كذلك فإنني لا أرى أن الحلف سيستخدم قدراته العسكرية مرة ثانية لمساعدة حركات ديموقراطية في هذه الدولة أو تلك في المنطقة؛ لأنها مستحيلة عسكرياً وخطيرة جداً سياسياً. وأظن أن «الحوار المتوسطي» سينحصر في مراقبة ومواجهة بعض المناطق الرمادية التي تنشط فيها المجموعات الإرهابية. وبالتأكيد، إن الحرب التي جرت في ليبيا وتداعياتها، ستفاقم هذه الأمور هناك على الحدود مع الجزائر وفي الإقليم. وما أتوقعه هو أن يقترح الحلف الأطلسي على الجيوش في الديموقراطيات الناشئة في تونس ومصر وليبيا تقديم العون التأهيلي والتدريبي والتقني».



يشير دومينيك دافيد إلى أن مشاركة قطر والإمارات العربية المتحدة في عملية الأطلسي في ليبيا استندت إلى «مبادرة إسطنبول» لعام 2004 التي كانت موجهة إلى الدول العربية في الخليج. لكن انخراط الدوحة وأبو ظبي في العملية المشار إليها، جرى على ما أظن وفق منطق العلاقات السياسية الثنائية مع فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة ليس إلا.