لندن | يبدو جلياً أنَّ الخروج من أزمة اليورو منوط بأثمان سياسية ويستدعي خطوات جذرية يتخذها قادة «المشروع السياسي الأوروبي». فالفضائح التي راكمها رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلوسكوني في حياته السياسية لم تكن كافية لإطاحته، حيث ظل «حوت الإعلام» صامداً رغم الفضائح والمعارضة، ليتمتع بمدة حكم هي الأطول منذ الفاشي بينيتو موسيليني، ولكنه سقط سقوطاً غير متوقع بين ليلة وضحاها، «ليكون ضحية» لـ«أزمة اليورو» التي تعصف بالاتحاد الأوروبي. أزمة وصفها رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير، في حديث إلى محطّة «بي بي سي»، بأنَّها «التحدي الأكبر» الذي يواجه «المشروع السياسي الأوروبي»، فيما وصفتها العميدة الألمانية أنجيلا ميركل بـ«الفترة الأكثر ظلاماً منذ الحرب العالمية الثانية».
حتى الآن، أطاحت الأزمة برلوسكوني ورئيس حكومة اليونان جورج باباندريو، ليبقى السؤال إلى أي مدى ستنجح الحكومات البديلة في إيطاليا واليونان في إحراز خطوات تعيد التوازن الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً أن سقوط الحكومات ليس بيت القصيد بل ما هو مشروع الحكومات المقبلة؟ فاليورو الذي كان مع بداية الألفية الثانية «شعار التجديد»، بات شعاراً لأزمة اقتصادية وسياسية لا تبدو ملامحها واضحة. وفي الواقع، «أزمة اليورو» لم تكن وليدة الأمس، فقد بدأت تتجلى ملامحها قبل عامين تقريباً، حين بدأت أزمة الدين تجتاح اليونان.
للخروج من تلك الأزمة، استعانت اليونان بقروض أوروبية ومن صندوق النقد الدولي، إلّا أن هذا لم يكن كفيلاً بإعادة الاستقرار إلى اقتصادها، بل على العكس أسهم في تشعّب الأزمة، وخصوصاً أن عدم تسديد اليونان لقروضها قد يدخل البنوك الأوروبية إلى أزمة تلقي بظلالها على أوروبا.
والأزمة لا تقتصر على اليونان، إذ تعاني منها إيرلندا التي تورطت بنوكها في قضايا عقارات، ومن بعدها البرتغال. وفي صلب هذه الوضعية الصعبة، دخلت كل من إيطاليا وإسبانيا إلى حيّز العجز، وهنا تفاقمت الأزمة نظراً إلى دور الاقتصاد الإيطالي في أوروبا، إذ يُشير الخبراء إلى أنَّ حل هذه الأزمة عموماً يستغرق وقتاً، نظراً إلى أنها تراكم الكثير من القضايا الاقتصادية العالقة منذ القدم، وأبرزها تضارب مصالح الدول الأعضاء في كتلة اليورو.
ويتطلب الحل أيضاً قيادة سياسية تفرض حلولاً اقتصادية وخطط معالجة لا تتمتع بشعبية تذكر في صفوف الشعوب، ما يخلق حركة مناهضة لها. وهذا ما شهدته اليونان منتصف العام الحالي حين خرج الناس إلى الشارع مندّدين بخطّة التقشّف الاقتصادي التي وضعتها الحكومة. ورأت حركة الاحتجاج المناهضة للتقشّف أن مثل هذه الخطة ستكون رافعة للبنوك على حساب مصالح الشعب.
وبحسب مجلّة «ذا إيكونوميست»، فإنّ الخوف من عدم قدرة حكومات اليونان والبرتغال وإسبانيا وإيرلندا وإيطاليا على الالتزام بقروض وصلت إلى 3 تريليونات يورو، من شأنه أن يلحق الضرر بالبنوك الأوروبية. وترى المجلّة أن المصاعب التي قد تواجهها البنوك من شأنها أن تلحق الضرر بالأمن الاعتمادي، وأن تؤدي إلى ركود اقتصادي. كذلك يزداد التخوف من أن الحكومات لن تكون قادرة على تسديد ديونها للبنوك، ما قد يؤدي إلى كارثة. والخروج من هذه الأزمة يأتي عندما تقدم الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي على دعم باقي الدول التي تلتزم بإصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية، وسيكون هذا صعباً، بحسب المجلّة نفسها.
هنا يطرح نقاش سياسي جديد في الدور الاقتصادي والسياسي للاتحاد الأوروبي، وإلى أي مدى تتماسك أطرافه غير المتكافلة. في السابق، لم يكن تفكيك الاتحاد الأوروبي وارداً. عندما عصفت الأزمة الاقتصادية، لم يكن أيضاً التنازل عن اليورو والعودة إلى العملات القديمة حلاً مطروحاً، وهو ليس مطروحاً اليوم. لكنَّ محللين اقتصاديين أشاروا إلى أنَّه عاد ليكون خياراً رغم انخفاض احتمالات تنفيذه. فلم يعد «اليورو» عملة مقدسة. أما بالنسبة إلى الدول الأعضاء، يتبيّن يوماً بعد يوم أنَّ فرنسا وألمانيا، الدولتين القويتين في الاتحاد الأوروبي، ستتحملان أعباء المرحلة، وقد برزت دعوات من ألمانيا وفرنسا تركز على إمكان تقليص عدد الدول الأعضاء في «اليورو»، والعين على اليونان لتكون خارج الكتلة الأوروبية. إلا أنَّ مثل هذا القرار ليس أمراً سهلاً، وخصوصاً أنه يطرح تساؤلاً كبيراً عن معنى خروج اليونان، فيما تمسّ الأزمة بلدانا أخرى أكبر حجماً. الأنظار في هذه الأيام متجهة إلى رئيس الوزراء الإيطالي الجديد ماريو مونتي (68 عاماً) صاحب الخلفية الاقتصادية، وإلى كيفية تعاطيه مع «رابع أكبر دين في العالم»، لأن خطواته ستنعكس على كافة السوق الأوروبية. لكن القضية لا تحتاج فقط إلى حنكة اقتصادية، بل إلى قدرة سياسية من أجل إمرار الخطط الاقتصادية، وهذا هو الذي سيظل الحلقة غير المعروفة في تعاطي مونتي مع الأزمة.
وبطريقة غير مباشرة حمّلت صحيفة «إندبندنت» البريطانية مونتي أعباء المرحلة المقبلة، وقالت إنَّ اليورو «لن يصمد في حال فشله». كذلك طرحت «ذا إكونوميست» تساؤلات كثيرة بشأن كيفية الحفاظ على مكانة اليورو، حيث شدّدت على أن اليورو لن يكون آمناً حتى تستجيب القارة الأوروبية لبعض من التساؤلات الأساسية التي تهرّبت منها على مدار سنوات، وفي صلبها السؤال عن كيفية استجابة الأمم للعالم المتغيّر بسرعة من حولها، وماذا ستفعل الأمم عندما تنزع العولمة من الغرب سيطرته على التكنولوجيا؟ المجلة لم تتردد في وصف أوروبا بأنّها «عجوز».
لا بد من الإشارة إلى أنه في هذه الأثناء ثمة علامتا استفهام تهيمنان على المشهد المتأزم في أوروبا؛ الأولى بشأن الوحدة النقدية الأوربية وتعاطيها الحالي مع الأزمة التي تتهددها، والثانية هي الرؤية الرأسمالية التي تواجه صعوبات كبيرة منذ الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008.



مشاورات مونتي


بدأ رئيس الوزراء الإيطالي المكلّف ماريو مونتي، أمس، مشاوراته الشاملة لتأليف حكومة جديدة بعد رحيل سيلفيو برلوسكوني.
والتقى مونتي أمس التشكيلات السياسية الصغيرة في البرلمان الإيطالي، على أن يلتقي اليوم الأحزاب السياسية الرئيسية والنقابات ونقابة أصحاب العمل. وسيعرض لاحقاً لائحة مصغرة من 12 وزيراً على رئيس الدولة جورجيو نابوليتانو.
وأكد مونتي لدى لقائه وفداً صغيراً من الحزب الجمهوري الإيطالي أنه يعمل على وضع «برنامج يتضمن الكثير من التضحيات»، إضافةً إلى أعمال ترمي إلى تحفيز النمو.
وشدد مونتي على أنه يجب على إيطاليا أن تقوم بنقلة نوعية لتعود واحدة من نقاط القوة في أوروبا لا من نقاط الضعف. وقال «من الضروري استعادة العافية للوضع المالي والعودة إلى النمو في ظل إعارة الانتباه للمساواة الاجتماعية». وأضاف إن «على البلاد أن تكسب التحدي، فنحن ندين لأولادنا بأن نضمن لهم مستقبلاً فيه كرامة وأمل». وختم بالقول «نحن بحاجة إلى أن نكون من جديد قوة لا طرفاً ضعيفاً في الاتحاد الأوروبي الذي كنا من مؤسّسيه».
(أ ف ب، يو بي آي)