كلام في السياسة | أخيراً كتبها بان كي مون: جنّسوهم!

  • 0
  • ض
  • ض

يوم جاء بان كي مون إلى بيروت، في الأسبوع الأخير من آذار الماضي، لم يفهم كثيرون مغزى الخطوة. فالاستحقاق الرئاسي لا تأثير للمسؤول الأممي عليه. الأوضاع الداخلية عندنا خارج اهتمامه. باقي أزماتنا لا تعنيه. طبعاً، وكما كل زائر دولي، وضع ملف النازحين السوريين في أولوية جدول زيارته.

تفاءل بعض مسؤولينا بذلك. ابتسموا له حتى تشقّقت شفاههم. بعضهم الآخر، سكر من حديث الملايين. اعتقدها أولاً هبات مجانية. واعتقد ثانياً أنها صارت في الجيب. قبل أن يكتشف كل اللبنانيين، لاحقاً، أن «مواعيد» بان كي مون ليست غير ديون. وأنها بعد شهرين على زيارته، لم يلمح لبنان بداية حرف من آلاف الأوراق المنتظرة والمفترضة، كخطوة أولى على طريف ألف ميل لتميلها إلينا، قروضاً تزيد أعباءنا عبئاً وفوائدنا لا فائدة ...
بعد عودته إلى نيويورك بدأ المعنيون يدركون حقيقة الدافع إلى زيارة بان كي مون البيروتية. فهي تحضير لخطوة مفصلية. هناك، في مبناه الزجاجي الكبير على إحدى ضفاف مانهاتن، جلس الرجل يخطط، ويكتب. حتى انتهى في خلاصة جهده إلى تقرير من 39 صفحة كاملة. نتيجتها واحدة: انتهى لبنان.
التقرير موضوع شكلاً تحت تحت عنوان «بأمان وكرامة. التعامل مع التحركات الكبيرة للاجئين والمهاجرين». وفضلاً عن أهمية موضوعه والمضمون، تظهر من صفحة غلافه أهمية أخرى. أن التقرير المذكور موضوع من قبل المنظمة الدولية كي يكون ورقة عمل ومسودة ورشة تفكير وتقرير، في الاجتماع المخصص لموضوع المهاجرين واللاجئين والنازحين حول العالم، والذي سيعقد في نيويورك في 19 ايلول المقبل. عوامل تضفي على التقرير طابع المصيرية وتفرض تلخيص أبرز ما فيه، خصوصاً لجهة تداعياته المحتملة لبنانياً.
يبدأ التقرير الأممي بدعوة عامة الى تعاون عالمي لمواجهة ازمة النازحين على مستوى الكرة الأرضية. يرفع حيال هذه المعضلة عنوانين كبيرين، كأنهما سيفان مصلتان: حقوق الإنسان المهاجر. والجدوى الاقتصادية البالغة الأهمية لهجرته!
يبني التقرير مرتكزاته القانونية على مجموعة لافتة من وثائق القانون الدولي: اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين. البروتوكول الملحق بها للعام 1967. العهدان الدوليان للحقوق السياسية والاجتماعية. وطبعاً الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. صارت الترسانة القانونية الدولية ساحقة، لينطلق بعدها المقرر لفرض وجهة نظره ووجهة سير ملايين البشر.
منذ الصفحات الأولى يحدد بان كي مون التصور الاستراتيجي لمعالجة أزمات اللاجئين والنازحين. يقول إن الجهود المتوسطة والطويلة الأمد هي من أجل إدراج اللاجئين والمهاجرين في الخطط الوطنية والمحلية للبلد الذي استقبلهم. وهذا ما قد يحتاج إلى دعم حارجي.
ثم لا يلبث المسؤول الأممي الكوري الجنسية أن يعطي دروساً من بيئته. فيعرض لما اعتبره تجربة نموذجية، كيف أن لاجئي الهند الصينية وضعت لهم خطة مشتركة بين عامي 1989 و1997، بين بلدان الهرب وبلدان اللجوء، ادت الى استقبالهم ودمجهم او اعادة نقلهم وتوطينهم في بلدان ثالثة. الأمر نفسه يعرضه لتجربة النازحين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
بعدها ينتقل مباشرة الى اللاجئين السوريين. منذ البداية يحدد ان المطلوب خطة استجابة في الدول التالية: تركيا الاردن العراق مصر وطبعاً لبنان. نحن معنيون إذن بكل ما ورد وبكل ما سيلي. الخطة المطروحة لهؤلاء هدفها تحقيق «تنمية قائمة على بناء القدرة على التكيف». كيف؟ يشرح بالتفصيل: النهج الافضل هو استيعاب اللاجئين والمهاجرين في جميع مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. هذا الاستيعاب هو في مصلحة كل الاطراف: بلدان المنشأ والمضيف واللاجئ. أي أن استيعاب النازحين على قاعدة «تكيف» هؤلاء، هو لصالح النازحين أنفسهم. لكن الأهم أنه لصالح الدول التي عليها استيعابهم. كما أنه لصالح سوريا! ثم يشرح أن هذا الاستيعاب يفترض أن يؤدي إلى ادماج اللاجئين والمهجرين. وبحسب تجاربه يقول ان افضل صيغ استيعاب ثمراً، هو الذي يبدأ فور الوصول. ولذلك يجب اشراك اكبر مروحة من المؤسسات ضمن هذا المشروع: مجتمع مدني، طوائف دينية، قطاع خاص، اعلام، حركات حقوق انسان... يبدو الكلام ههنا من نوع ما نشهده فعلا، «ديجا فو»!
لا ينسى بان كي مون الاجراءات البيومترية لتسجيل الولادة والزواج والطلاق والوفاة، بما ييسر الحلول. فضلا عن خدمات أخرى ضرورية وأساسية، يعدد منها على سبيل المثال: الصحة والتعليم والمياه والصرف الصحي والاسكان والطاقة والخدمات الاجتماعية. هذه تحتاج الى مساعدات طبعاً للبلد المستقبل. لكن على هذه البلدان المضيفة الحد تدريجيا، ومع مرور الوقت، من الاعتماد على الخارج، لصالح اللجوء الى حلول اكثر استدامة. عبر الاعتراف بحقوق النازحين في الاقامة والعمل القانوني حيثما امكن.
لا ينسى الموظف الأممي طبعاً احتمال العودة. لكنه يشرطه أولاً برغبة اللاجئين في ذلك. ثم بأن تكون عودة ضمن اطار مناسب «يضمن سلامتهم الجسدية والقانونية والمادية وفقا للمعايير الدولية». وهو ما يقتضي العمل على بلدان المنشأ، سعياً إلى تحقق شروط عدة تمهيداً لأي عودة مرغوبة. مثل العفو وضمانات حقوق انسان واعادة ممتلكات النازحين...
هنا، يبلغ الخط البياني التصاعدي للتقرير ذروته: لكن ماذا إذا لم تتأمن هذه الظروف المثالية دولياً وبحسب المعايير الأممية للعودة، أو ماذا إذا تأمنت ولم يرغب النازحون بالعودة؟ عندها، يكتب الأمين العام للأم المتحدة بوضوح كامل، أسود على أبيض، «يحتاج اللاجئون الى التمتع بوضع يسمح لهم بإعادة بناء حياتهم والتخطيط لمستقبلهم. وعلى الدول المستقبلة أن تمنحهم وضعا قانونياً، وان تدرس أين ومتى وكيف، تتيح لهم الفرصة ليصبحوا مواطنين بالتجنس».
أمام اللبنانيين والسوريين، وسواهم أيضاً، حتى أيلول، كي يصبح هذا «الأمر» جزءاً من أوراق القانون الدولي الإنساني ربما. فترة، ستتخللها عندنا مؤتمرات ومبادرات وخطوات، منها طبعاً البحث عن رئيس!

0 تعليق

التعليقات