لن يكتب الياس خوري سيرته الذاتية أبداً. هذا ما يقوله. فسيرته لا ثقل لها خارج هويته كروائي. كل ما يقع خارجها يبقى خارج الذاكرة الأدبية. هذا ما يفسر ربما، أسلوب خوري التركيبي في روايته الأخيرة «إسمي آدم – أولاد الغيتو» في إعادة انتاج صورته كأديب يكون أيضاً باسمه الحقيقي وأحد شخصيات العمل. هذا الاستثمار الروائي يدل على أن لا مجال لأية تابوهات في كتاباته.

الأمر إذن لا يتوقف عند محاولته دحض الرواية الإسرائيلية بالأدب، وإنما أيضاً أن يعرض نتاجه الأدبي لمساءلات على لسان شخوصه. في «أولاد الغيتو»، نذهب إلى اللدّ، إلى غيتو صممه الإسرائيليون للفلسطينيين. صندوق. يطابق في نتيجته ما فعله النازيون بيهود الحرب العالمية الثانية. سيقضي الفلسطينيون اختناقاً. هنا، لا مكان للاستعارة. آدم، هو أول شخصية ولدت في الغيتو. سيكسب اسمه لهذا السبب. وسيحاول باستعادته لحكاية وضاح اليمن، الشاعر الذي قضى اختناقاً في صندوق، أن يكتب استعارة. إلا أنه يقلع عن هذا القرار. ليجد نفسه مُبتَلَعاً داخل قصته الشخصية. حكايته ستفضي في نهاية المطاف إلى استعارة أكبر، وذات صوت يتعلق بالذاكرة الجماعية. خوري يناور نماذج من الأدب الفلسطيني والعالمي. سيحضر محمود درويش وغسان كنفاني، كعرّابي هذه العلاقة التفاضلية للأدب الفلسطيني على أدب العدو. وسيقف خوري عند رواية «خربة خزعة» (1949) للكاتب الإسرائيلي يزهار سميلنسكي، أول رواية كُتبت عن النكبة.

في حوارك مع خوري، يمكنك أن تنزلق إلى الذات، والقضايا الفردية، كما يمكن أن تجد نفسك على حين غرة موضوعاً في قلب ذاكرة أشخاص مجهولين، التقاهم، وأعاد صياغتهم أدبياً. أولى رواياته «عن علاقات الدائرة» (1975) تعد الأكثر تجريبية وتجريداً بين جميع أعماله. جاءت مع بدايات الحرب الأهلية اللبنانية التي أعادت إنتاج رؤيته في السرد الروائي. إنه كاتب يواصل اختياره بالكتابة من واقع مأزوم، ومكان متحلل ومتداعٍ. وليس من قبيل الغرابة، أن تدخل في أحد الأيام أكبر مكتبات أوسلو لبيع الكتب وتجد صورة إلياس خوري معلقة في صدر المكان/i>


■ في حوار لك مع خوليو كورتاثار لمجلة الكرمل، تسأله عن علاقته كأديب بالواقع اليومي. هل يمكنني أن أطرح السؤال نفسه عليك. ما هي علاقة الياس خوري بالواقع الفلسطيني اليوم؟

ـــ أنا أكتب انطلاقاً من أسئلة الحاضر. «باب الشمس» التي يعتبرها الناس رواية الذاكرة الفلسطينية، مكتوبة في الحاضر. في مخيم شاتيلا. حدثها الرئيسي يدور في مخيم شاتيلا في التسعينيات. أما الباقي فهو تركيب. الرواية طبعاً تعود إلى الماضي. الماضي يشبه علاقتي بمراحلي المختلفة. «اسمي آدم» تدور في نيويورك، الآن. آدم خرج من فلسطين المحتلة إلى نيويورك لأسباب واضحة في الرواية، ثم في نيويورك قرر أن يكتب قصته. تفجرت قصته هناك، بحيث يلتقي بمأمون الأعمى. أما دافعه للكاتبة فهو الحاضر وارتطامه بالواقع المعاش. الماضي والحاضر ممتزجان ببعضهما في حياة كل الناس. ومرآة الحاضر هي اجتماع هذه العلاقة بين ذاكره وحاضره. آدم كان يفتش في روايته، بأسئلة عن معنى الحب. لكنه قرر فيما بعد أنه لا لزوم للاستعارة. فقرر أن يكتب الحقيقة أو تجربته الشخصية.


■ وكيف تقرأ المأساة الفلسطينية على الصعيد السياسي؟

ـــ افتراضي وهو افتراض نظري هو أنه ثمة خطأ تاريخي في قراءة فلسطين والذي يعتبر أن النكبة حصلت عام 1948. برأيي أن النكبة ليست حدثاً تاريخياً وإنما مسار تاريخي، والنكبة مستمرة، وهي ظلت تحدث بعد عام 1948 وحتى الآن. مشكلة الكتابة في الإطار الفلسطيني أنه بالفعل لا يوجد منطق. النكبة هي حدث تأسيسي في الوعي الفلسطيني، هذا صحيح إلى حد ما، لكنها ليست حدثاً ماضياً. الوعي الفلسطيني يتأسس كل يوم. لأن النكبة حدث مستمر. النكبة لم تحدث في فلسطين فقط، بل في تل الزعتر وشاتيلا واليرموك، أما نكبة فلسطين فهي جزء من نكبة العرب. هي بداية مسلسل النكبات. ليس فقط في فلسطين وإنما في المشرق العربي. نكبة فلسطين هي رد الفعل الذي افترضه مفكرو الحركة القومية على النكبة وهو الانقلاب العسكري، هو جزء من النكبة. هو نكبة أيضاً. معاناة الشعوب العربية هي نتاج النكبة. انقلاب الضباط الأحرار، انقلابات سوريا، حزب البعث... إلخ. كلها مرتبط بنكبة فلسطين. هذا لم يكن رداً على النكبة. بل إنها كانت أشكالاً ترسيخية للنكبة، وهذه الاشكال الترسيخية قادت فيما بعد، إلى الكارثة، الانفجار والتشظي الذي نعيشه اليوم. نحن في سياق متصل. إسرائيل مع هذا الجنوح نحو التيار الديني بدأت تفقد هذا الغلاف الغربي - القفازات الأوروبية. إلا أنها المذبحة نفسها. رهاني الوحيد على البعد الإبداعي. «اسمي آدم» رواية عن الغيتو، غيتو اللد، إلا أنها رواية عن الصمت، عن الأدب، هي رواية عن علاقة الأدب بالأدب. قراءات بالأدب. هناك ذكر لكنفاني، إميل حبيبي، أموس عوز، يأخذ مقطعاً من يزهار الكاتب الإسرائيلي الذي كتب رواية «خربة خزعة»، السؤال عن الأدب هو سؤال أدبي. وليس سؤالاً سياسياً.



برأيي أن النكبة ليست حدثاً

تاريخياً وإنما مسار تاريخي، والنكبة مستمرة، وهي ظلت تحدث

بعد عام 1948 وحتى الآن



■ لكننا في المجمل قراء سياسيون.

ـــ الكاتب الحقيقي يجب أن يكتب بوصفه قارئاً، حتى القارئ يجب أن يقرأ بوصفه كاتباً.


■ لكن ما مدى سهولة هذا الأمر عملياً؟

ـــ هذا أكثر الأشياء صعوبة في الكتابة. أن تكتب بوصفك قارئاً. القارئ إنسان يقوم باكتشاف الأشياء ثم تأويلها. إنه يقرأ عن أشياء لا يعرفها. لو كان يعرفها ما كان سيرغب بالقراءة. الأدب منذ نشأته يحمل جانباً معرفياً، وليس فقط وعاء من الجماليات والاستعارات. القارئ حين يقرأ، يتعرف على أشياء لا يعرفها. يتعرف على العالم، الألوان والروائح، فيعيد تأليف الكتاب بتأويله له. أما الكاتب، فعليه أن يتصرف كقارئ. أنت تقوم بتركيب شخصيات. عليك أن تصغي للشخصيات، أن تحبها، أن تقبلها كما هي، وأن تقبل أنها مختلفة عنك ومتمردة على إرادتك. مهنة الكاتب أكثر مهنة مخادعة. ليس ثمة كاتب مهم. من هو أكثر أهمية برأيك، شكسبير أم هاملت؟ إني أطرح هذا السؤال عليك الآن.


■ بالنسبة لي، هاملت أكثر أهمية من شكسبير.

ـــ طبعاً... من هو شكسبير؟ ما الذي نعرفه عنه؟ شكسبير مجرد اسم. اسم بلا مضمون. المضمون هو الشخصيات التي كُتِبت. الكاتب غير مهم.


■ لكنه ضروري حتماً.

ـــ طبعاً ضروري. إلا أن إعطاء الأهمية للكاتب هو جزء من عالم الحداثة الذي يفترض أن الأفراد مهمون. هوميروس، هل هو موجود أم ليس موجوداً؟ طه حسين يبرهن أن امرؤ القيس غير موجود. لكنه موجود في الأدب. بهذا المعنى، فإن الكاتب الفرد هو أداة للوصول إلى إعادة تركيب العالم بطريقة جديدة ومختلفة وملائمة. العالم يمر اليوم بأزمة أخلاقية، بالمعنى العميق لكلمة أخلاق. في هذا المعنى فإن الأدب والفن يعيدان بناء الأخلاق في العمق. الأخلاق ليست بمعنى أن تكون مهذباً. أن لا تحكي عن الجنس وعن الدين، فهذا غباء. الأخلاق نظام من القيم التي تحمي الإنسان من التفكك ومن التحول إلى وحش. هذه وظيفة الأدب برأيي.

■ هل يغيّر الأدب العالم؟ وبالتالي هل تغيرت العلاقة بين الأدب والنظرة إلى الإنسان لتهريبه من محيطه أو تخليصه من مأزقه ولو بصرخة؟

ــــ ثمة تغير نعم. لو قرأنا بدايات الأدب الحديث مثلاً سنلاحظ ذلك. خذ كافكا مثلاً. كافكا كان منهمكاً بصنع استعارة كبرى. كي يكتشف الواقع، واقع الاستبداد والقمع وغربة الفرد أمام المؤسسة السلطوية. اليوم نحن في وضع معكوس. الواقع هو التفكك والاستبداد والظلم، والأدب يريد نقل هذا الواقع إلى الاستعارة. كافكا حوّل الاستعارة إلى واقع، أما نحن فوظيفتنا اليوم أن نحول الواقع إلى استعارة. وهما عملان متكاملان، لا يدعوان إلى اليأس بقدر ما يدعوان إلى التأمل. تأمل كم أن القيم بارتباطها بالثقافة قادرة على المقاومة. حين ننظر إلى القرون الوسطى، سنجد أن ما نعيشه يفوق تلك الأزمنة هولاً، بسبب أن آلة القمع اليوم أكثر سفسطة وتعقيداً وخفية والتباساً من ذي قبل. ما دمنا قادرين على مقاومة آلة القمع هذه، فإن الأمر يدعو إلى الأمل.


■ لكن، ألا تعتقد أن المرء حين يقرأ واقعه بصيغة استعارة، فإن الأدب سيحيله على الواقع الذي هو فج ويومي ومعروف بالنسبة له؟ ألا يهدد هذا كينونة الأدب أو الاستعارة بحد ذاتها؟

ـــ على العكس. دعني أعود بك إلى روايتي «أولاد الغيتو - اسمي آدم». لقد تطرقت فيها إلى مسألة الغيتو. وهي حكاية لم يقم أحد من قبل، وللأسف، بالكشف عنها: الغيتو الفلسطيني الذي يعيشه الفلسطيني في اللد. في اللد ثمة حيّ اسمه حتى هذه اللحظة «غيتو العرب». لم يعد الغيتو موجوداً، لقد أزيلت الأسلاك إلا أن الناس بقوا. وقد حدث الأمر عينه في الرملة، حيفا، يافا وعكا. هناك الكثير طبعاً مما لا نعرفه أيضاً. أحد وظائف الأدب أن يبوح. أليست وظيفة الأدب تسمية الأشياء بأسمائها؟ المتداول لدينا أن المحرم في الأدب هو الدين والجنس. المحرم ليس هنا فقط، بل أن تسمي الأشياء بأسمائها. نحن لا نفعل هذا في حياتنا. مشكلتنا أننا لا ندخل في تفاصيل الحياة اليومية. هذا هو التابوه الحقيقي. لا يوجد في الأدب اللبناني الذي يتعامل مع ثيمة الحرب الأهلية كلمة واحدة عن الطائفية. الأدب اللبناني قبل الحرب الأهلية لا يتضمن كلمة واحدة أو نصاً واحداً عن حرب 1864. هذا هو التابوه الحقيقي. الأدب السوري لا يتضمن نصاً واحداً عن مذبحة الشام عام 1860. الجنس ليس تابوهاً في الأدب العربي القديم. التابوه الحقيقي أن لا نذهب إلى الحياة المعاشة لنكتبها. التابوه الحقيقي أن لا تضع خادمة في الأدب لتصنع منها رمزاً. ثمة أدب خادمات لكنهن رموز. ومن ثم يصبحن استعارة. تحويل الواقع إلى استعارة يمنح الاستعارة معنى. أن تقول لي مثلاً أن زهرة بطلة ميرامار هي رمز مصر سأقول لك صحيح لكنها ليست رمزاً لشيء. الكاتب ركّبها كرمز، لكنها ليست رمزاً لشيء. الاستعارة الحقيقية هي اعادة صياغة الواقع. لا استعارة تأتي من لا شيء. عندما تحول الواقع إلى استعارة فأنت بذلك تقرأ الواقع ولا تغطيه. لكن عندما تسقط الاستعارة على الواقع من دون أن تكون على معرفة بعناصره فأنت عندئذ تمارس تدميراً لهذا الواقع. من السخف القول إن قضية فلسطين قضية العرب الأولى. فلسطين هي بشر عاشوا ويعيشون الآن في جبل الكرمل في القدس وفي مخيم شاتيلا. هذه قضية فلسطين. مخيم اجتمع فيه فقراء بكثافة، مدعوسين، مقموعين ومضطهدين. هذه هي فلسطين. أنا لا أحب فلسطين. أنا أحب الفلسطينيين. كل الانظمة العربية تدعي حب فلسطين لكنها تذبح الشعب الفلسطيني. فلنتعرف إلى الشعب الفلسطيني، إنه هو من يعطي معنى لفلسطين. ما نفتقده هو ذلك الأدب الذي يرينا صورتنا الآن. وهنا يأتي أحد عناصر الخلل والتسطح في أدب نجيب محفوظ. لقد كتب لغة فصحى منسقة مرتبة، وضع كل كلمة في مكانها الصحيح. إنه قصاص عظيم. وهذا قيمته الكبيرة. إلا أن نصه مسطح لا يحملك إلى أعماق الشخصية لأن أعماق الشخصيات لا تنكشف إلا من خلال لغتها. لذلك، على الكاتب أن يذهب إلى لغة الناس. أن يمزج الدارج بالفصحى.


■ هل ستكتب سيرتك الذاتية يوماً؟

ـــ لا. وهذا لأنني لست مهماً. ليس لدي قصة حياة عظيمة.


■ لكنك تخترع ألعاباً روائية تتعلق بتضمينك جزءاً من سيرتك الذاتية، أثناء اشتغالك على الرواية. مثلاً في بداية «اسمي آدم».

ـــ هذه خدعة طبعاً. الياس خوري هو الذي كتب هذه الوثائق. هو الذي اخترع شخصيات آدم وغيره. بعض الناس اتصلوا بي قائلين: «أين وجدت آدم؟ وأين يعيش الآن؟ عرفنا به؟» فأجبتهم «آدم هو شخصية من ابتكاري. هل يعقل أن أكون وجدته وآخذ حكايته وأضعها تحت اسمي؟ شو أنا نصّاب؟». أعمل الآن على جزءين ثان وثالث. وسيكون ثمة حوار فيهما بين الياس خوري وآدم، ونقد عميق من الثاني إلى الأول. بل لكل الياس خوري.



كافكا حوّل الاستعارة إلى واقع، أما نحن فوظيفتنا اليوم أن نحول الواقع إلى استعارة. وهما عملان متكاملان، لا يدعوان إلى اليأس


■ لكنك أنت من صنع الشخصية، شخصية آدم وبالتالي فأنت من سيكون قد صنع التقييم أيضاً.

ـــ لا. أنا صانع الشخصية وليس التقييم. سأقول لك لماذا. عندما تكتب شخصية ما، فإن عليك أن تصدق الشخصية وإلا فإن القارئ لن يستطيع تصديقها. لقد تخليت عن الكثير من مشاريعي الأدبية لأن الشخصية التي كنت أكتبها لم أكن قادراً على التعامل معها بصفتها شخصية مستقلة. مهمة المؤلف الكبرى تكمن في قدرته على بناء شخصيات على أنها شخصيات حقيقية. بعد هذه المرحلة يأتي الصراع الأكبر.

فأنت عندما تصنع شخصاً حقيقياً لا يمكنك أن تأتي وتقول له «أنت لست حقيقي». وإلا رحل. ستصبح ككاتب في حاجة لبطل الرواية أما هو فلن يعود في حاجة لك. يمكنه أن يرحل في أي وقت. الأدوار تنقلب. في البداية، البطل يتكئ عليك ثم تنقلب الأدوار.


■ هل أسهمت الحرب وقربك من منظمة التحرير في صناعة تجربة الياس خوري الروائي؟

ـــ لم أكن مقرباً من أزلام منظمة التحرير. لقد كنت مناضلاً في حركة فتح. وهذا شيء أعتز به. وقد حملت قناعاتي في هذه التجربة إلى أقصى الحدود. كنت مستعداً للموت ومنتظراً له في أية لحظة. شاءت الأقدار أنني لم أمت. إلا أن عدداً من أصدقائي مات.


■ وهل أثّرت أي من رواياتك على علاقتك بمنظمة التحرير؟

ـــ رواية «الوجوه البيضاء» كانت الكتاب الوحيد الذي انتقد منظمة التحرير وحكي عن أخطائها. لقد منعته قيادة فتح وقتها وبقرار. وقد صدر قرار من قيادة فتح باعتقالي بسبب هذا الكتاب. في ذلك الوقت، كنت قد أصبحت خارج فتح. لقد خرجت من فتح بعد عملية الليطاني.


■ هل قاتلت؟ أطلقت النار على أحدهم؟

ـــ طبعاً.


■ عرفت بانتقادك للنظام السوري منذ أوائل الثمانينات. وتركت جريدة السفير بسبب ذلك. لكنك عدت إليها بعد الاجتياح الاسرائيلي. هل غير الاجتياح موقفك من النظام؟

ـــ في أواخر عام 1981 كنت أكتب في جريدة السفير، إلا أنني بعد انتقاداتي للنظام السوري، أرغمتُ على ترك الجريدة، أو قل تُرِّكْتُ. لكن الاجتياح الإسرائيلي لبيروت فرض أولويات جديدة. فعدت بنفسي إلى جريدة السفير. اعتبرت أن الموضوع السوري لم يعد المسألة الأهم، وأن الأولوية هي مقاومة إسرائيل. وكتبت سبع مقالات على مدى سبعة أيام، شكلت سلسلة «زمن الاحتلال». مقالات أثارت هلع زملائي في الجريدة وهلع الناس. لقد اعتبرني الناس معتوهاً كوني أريد مقاومة إسرائيل. كان رأيي أن الحرب الأهلية يجب أن تطوى نهائياً. بل كان يجب أن تطوى عام 1977. إلا أن سلسلة أخطاء من قيادات منظمة التحرير ومن ثم الضغط السوري الهائل ومن ثم التوافق الإقليمي الدولي. كان رأيي بأنه يجب أن تبدأ مرحلة المقاومة الوطنية. هذه المقالات أسست لأول مرة لمقاومة إسرائيل. للأسف فإن تجربة جبهة المقاومة الوطنية، قد تعرضت للتصفية. والأمر معروف.


■ فلنعد إلى الأدب، هل تشعر بأن ما يحدث في الشرق الأوسط سيؤثر في سياق الأدب العالمي؟

ـــ لا أستطيع الجزم في هذا. النموذج الذي قدمته أوروبا، أعظم فكر، كان فكر الثورة الفرنسية يليه الفكر الماركسي ممارَسةً. فرنسا التي تبنّت شرعة حقوق الإنسان كانت قوة استعمارية مروعة. قامت بخيانة مبادئها. لم يستغرقهم وقت طويل. أن يخونوا مبادئ العدالة والمساواة والحرية وحقوق الإنسان. أوروبا مرت بتجربة بالغة التوحش في الحرب العالمية الثانية. في الوعي الأوروبي فإن كل المجازر التي ارتكبت خارج أوروبا، الكونغو مثلاً أو شمال أفريقيا، كانت أموراً برانية. الحل النهائي للمسألة اليهودية نفذته أوروبا. لقد أتممت مشروع هتلر. ألم يكن يريد القضاء على اليهود في أوروبا؟ وما هي النتيجة اليوم؟ لا يهود في أوروبا. اليهود الذين في فرنسا هم مغاربة. أوروبا ارتكبت جريمة بحق نفسها. كل أوروبا مسؤولة عن المحرقة النازية. ثم غسلت أيديها من الدم اليهودي بدمنا نحن. ثم إن أوروبا التي كانت تتميز بمعارضة ثقافية كبرى كسارتر وفوكو... إلخ. هذا كله لم يعد موجوداً. انهار نموذج الدولة الراعية والنظام الاشتراكي كله انهار لصالح الرأسمالية المتوحشة. اللغات الأقلية التي كانت في فرنسا أبيدت كلها، الباسك وغيرها. مشكلتهم مع الأقليات المسلمة سببها أنهم غير معتادين على التعامل مع الآخر. والازمة لم تبدأ بهجرة اللاجئين السوريين. الأزمة بدأت باستقدام أوروبا لليد العاملة من الشرق الأوسط. لا علاقة للاجئين السوريين بالأمر. أوروبا صامتة عن أفدح الأنظمة في العالم.


■ أنت قارئ مطلع على الادب العبري. أين تكمن مواطن الخلل في هذا الأدب الذي يحظى بسمعة عالمية لأسباب معروفة؟

ـــ لقد درست الأدب العبري في جامعة نيويورك. ويمكنني القول إنني أفدت كثيراً منه. أستثني شمعون بلاص، الذي هو عربي مثلنا وله مواقف سياسية مشرفة في وجه الاحتلال الاسرائيلي. حتى أنه جاء مرة إلى جامعة نيويورك مقدماً نفسه بالقول «أنا روائي عراقي أعيش في المنفى في إسرائيل». لا أحد يقدم نفسه هكذا. الأدب العبري يشهد اليوم صعود موجة من الكتاب الذين لهم أصول عربية أو شرقية. لكن الأدب العبراني المعاصر الذي مفتاحه أو بداياته الكبرى يزهار الذي كتب «خربة خزعة». والآن ثمة غروسمان وأموس عوز ويوشع وبنيامين تموز. الأدب العبري مشكلته هو أنه ليس أدباً إسرائيلياً. بمعنى أنه أدب إما مزروع في ذاكرة أوروبا الهولوكوست وهو ما يعطيه قيمته، وهذه إحدى نقاط قوة أدب غروسمان الكبرى. لكن الازمة تبدأ عندما تصل هذه الكتابة إلى فلسطين. حسناً، لقد أتوا إلى فلسطين وأقاموا دولتهم. جيد، فلنمش معهم كي نرى إلى أين سوف نصل.

تكتشف أنهم لا يستطيعون، عند كلامهم عن إسرائيل، أن يحكوا عن عنصر تكويني في دولتهم، وهو الفلسطيني. سواء الفلسطيني الذي بقي في فلسطين المحتلة أو الفلسطيني الذي طرد من أرضه. الفلسطيني إذا كان موجوداً في الرواية الإسرائيلية، فإن لا صوت له. هذا الأدب العبراني الحديث المكتوب في إسرائيل أسس ما أسميته «يهود اليهود». بمعنى أن كل مجتمع في حاجة إلى فئة دونية لاضطهادها. وبالتالي فإنهم حولوا الفلسطينيين إلى يهود اليهود. يزهار يخبر قصة اجتياح قرية في أواخر عام 1948 وطرد سكانها. الراوي يتعرض لتأنيب ضمير طوال الوقت. إنه مزعوج. أما أولئك الذين تتعرض بيوتهم للهدم، فلا صوت لهم. هم جزء من الطبيعة الصامتة. عندما درست يزهار بدقة، وخصوصاً روايته «خربة خزعة» التي أذكرها في «اسمي آدم»، فإن الأوصاف التي يذكرها مطابقة تماماً للأوصاف التي كان الأوروبيون يصفون اليهود بها. متسخون، رائحتهم كريهة، كسالى، إلخ.. يهود اليهود لا سلطة لديهم. إنه آخر مقرف. فألغوا الوجود الفلسطيني من الأدب الإسرائيلي بشكل يجعله لا يكون أدباً متسقاً. المتسق به هو ذاكرته الأوروبية. عندما تقرأ «ابتسامة الحَمَل» لغروسمان، فإن قصة الشخصية اليهودية كاتسمان، قصته في الهولوكوست هائلة لشدة ما هي متماسكة ومحملة بالأبعاد الإنسانية. عندما تصل إلى الفلسطيني لا يعود هنالك قصة. لذلك برأيي فإنه أدب غير إسرائيلي. إنه عبراني. لأنهم لم يستطيعوا أن يتكلموا عن إسرائيل بكل «مكوناتها». هذه مشكلة الادب الإسرائيلي، لأن الإسرائيليين – وهو أدب يساري – إذا ما اعترفوا بجريمة النكبة عام 1948، أو بوجود الفلسطيني، سيشكك بنفسه. غروسمان مثلاً ضد الاحتلال ومع إقامة دولة فلسطينية، إلا أننا عندما نصل إلى الموضوع، صلب الموضوع، فإنه يصمت. أنا أتحدث عن أدبه. الفرق أن الأدب الفلسطيني يستطيع أن يتكلم عن إسرائيل. لأنه أدب لن يخسر شيئاً. الإسرائيلي موجود ومحتل. الذي فتح باب كل هذا هو غسان كنفاني ومحمود درويش. غسان كنفاني في «عائد إلى حيفا» وضع شخصية يهودية من الهولوكوست. امرأة تفيض إنسانية. ومحمود درويش في ريتا. ريتا البنت اليهودية الإسرائيلية، هي كل شعر محمود درويش. بل إنها جندية في الجيش الإسرائيلي، حولها إلى موضوع الحب. وهذا تفوق أخلاقي هائل للفلسطينيين إذا قارنا بين الأدبين.