النقاش النقدي بصوت خافت لسلوك نافذين في المعارضة السورية بدأ يرتفع صوته قليلاً. لن تمر فترة طويلة قبل أن نسمع السجالات الحامية بشأن موقع المعارضين وموقفهم، وخصوصاً ائتلاف المجلس الوطني والجماعات المسلحة في داخل سوريا. ومن المرجّح وصفه بنعوت ليس أقلها الاستزلام للغرب واستجداء الخارج واستعمار سوريا، فقط لأجل التخلص من نظام الرئيس بشار الأسد. وساعتها، لن تنفع كل محاولات التجميل التي يقوم بها برهان غليون للنأي بنفسه ـــ أولاً ـــ عن التصريحات الواضحة لزملاء نافذين له في المجلس تدعو إلى تدخل خارجي. ولن تنفع معها نداءاته إلى «الثوار» لوقف عمليات القتل والخطف الطائفي. لن يسمعه أحد، وسيظل موقفه هذا أشبه بالطلاء الخارجي الذي تحتاج إليه العصابات المتاجرة بالموت. ما حصل خلال الأسبايع الأخيرة نقل «المسألة السورية» من موقع إلى آخر. ثمة قدر هائل من السذاجة عند من ينظر إلى ما يحصل على أنه استمرار لانتفاضة شعبية تتوخى تغييراً ولو كان شاملاً، وهي سذاجة تطابق الخبث الذي قد يكون موجوداً بقدر هائل عند من يصرّ على ملء بيانه بالعبارات المنددة بالقمع والدفاع عن حقوق الإنسان، بينما هو يعمل ليل نهار للتخلص من النظام السوري لحسابات لا تتصل أبداً بمطالب الشعب السوري. ومع الوجهة التي اتخذتها دول عربية عدة بدعم وتحالف مع الولايات المتحدة ودولتي الاستعمار التاريخي، بريطانيا وفرنسا، فإن الصراع انتقل إلى مستوى آخر.
العاقل يحتاج في هذه اللحظات إلى التوقف ملياً أمام الوقائع، وعدم التصرف بغوغائية من لا يرى في السماء إلا ملجأً لطير شارد. والوقائع القاسية تقول إن المشهد الاصلي للانتفاضة السورية، المطالبة بإصلاحات عميقة في السياسة والادارة والاقتصاد والحريات الفردية والعامة، بات في أسفل الشاشة. مع الأسف، نجح أعداء الثورات العربية الحقيقية في سرقة المشهد، وفي تحويل الأزمة نحو وجهة تتصل فقط بما يدور في الغرف المغلقة أو المفتوحة لقادة الدول المجاورة والبعيدة. ولأن الامر كذلك، فإن سوريا تواجه اليوم اختبار من يريد ضربها وتدميرها وإخضاعها ونقلها من ضفة إلى أخرى، وبين من عليه واجب الوقوف في وجه هذه الموجة الاستعمارية الجديدة، بغية إفشالها، وحماية وحدة سوريا، وحماية الموقع السياسي الذي تمثله في هذه اللحظة التاريخية، والمتمثل في خط المقاومة لكل السياسات الأميركية والإسرائيلية والغربية في المنطقة.
وفق هذا المشهد، يمكن فهم، بل هضم، قيام تحالف يجمع الحكم في تركيا وأمراء الخليج العربي، ومعهم حكومات دول ضعيفة وخائفة، مع الولايات المتحدة (ومعها إسرائيل) وغالبية أوروبا الاستعمارية. تحالف يريد القيام بكل ما يمكنه لتحقيق هدف مركزي واحد: إسقاط الرئيس الأسد ونظامه. لقد قرر هذا التحالف استخدام كل الأساليب، من القرارات التي تصدر عن الحكومات منفردة، إلى قرارات تصدر عن الجامعة العربية أو الاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى مجلس الأمن واستخدام كل المنظمات الحكومية وغير الحكومية، الإقليمية والدولية (لصاحبتها الولايات المتحدة) في سياق عزل النظام السوري وخنقه، والتحريض على قيام تنظيم مسلح في سوريا ينفذ عمليات عسكرية وأمنية ضد قوات النظام أو مناصريه، وتمويل أكبر حملة إعلامية يتعرض لها نظام في المنطقة. يشمل ذلك توفير قواعد الاتصال ونقل المعلومات مهما كلفت (أنفق أحد المهربين من لبنان نحو عشرين مليون دولار ـــ دفعتها دولة خليجية ـــ على نقل كمية كبيرة من وسائل الاتصال وبعض الأسلحة إلى مناطق سورية عبر الحدود في عكار والبقاع، صرف قسم كبير منها على عمليات النقل فقط). كذلك العمل على توسيع إطار المعارضين إلى أبعد حدود ممكنة، وإقصاء من يرفض جدول أعمال هذا التحالف والتشهير به على أنه عميل للنظام، والسيطرة على آليات العمل حتى الخاصة باتحاد التنسيقيات على الأرض. كل شيء مسموح به، لتحقيق الهدف ذاته.
لكن في المقابل حصل تطور يمكن الانتباه إليه بقوة أكثر من الآن فصاعداً؛ إزاء قرار الخارج الاستعماري ضرب سوريا خدمة لمشروع أميركا وإسرائيل، فإن روسيا من جهة، وإيران ومعها حزب الله في لبنان من جهة ثانية، والعراق من جهة ثالثة، قرروا العمل بكل قوة أيضاً لحماية هذا النظام ومنع التحالف الأميركي من تحقيق هدفه. ومن الآن فصاعداً، سوف يكون واضحاً أن المعركة باتت بين محورين، وبين تيارين: تيار يريد منع الثورات العربية من تحقيق هدفها في إسقاط الأنظمة العميلة للخارج الذي دعم الحكومات الاستبدادية، وتيار يسعى إلى تطوير قدراته استعداداً لحرب إقليمية كبرى هدفها وضع إسرائيل على طريق الزوال القريب والتخلص من شبح الاستعمار الغربي على بلادنا ومقدرات شعوبها.
لقد أدى استعجال معارضين سوريين على طلب الدعم الخارجي، بعدما شعروا بصعوبة إقناع غالبية سورية بالوقوف إلى جانبهم ضد الحوار مع النظام في سوريا، إلى دفع الانتفاضة الشعبية صوب الزاوية القاتلة. ولقد أدى استعجال الغرب الاستعماري إلى دفع الانتفاضة نحو خيارات قاتلة.
ترى، هل اقتربنا من لحظة مطالبة الثائرين الحقيقيين في سوريا بإعلان موقف صعب ومعقّد، لوقف كل الأنشطة التي يستفيد منها الخارج المرتبط بأميركا وإسرائيل؟