حدا بيركب تابوت؟

  • 0
  • ض
  • ض

لم تكن ستي سودة قد ركبت طائرةً من قبل، فهي لم تكن قد فكرت نهائياً بأن تركب طائرة أو حتى تحلم بالأمر لأنها لم تحتج يوماً لمغادرة المكان بعيداً لهذه الدرجة، فأبعد مكانٍ تقصده كان بالسيارة أو بالباص (البولمان).

الى يوم، عرض فيه عمي بإصرار على سودة أن تذهب إلى الحج، لأنَّه من الطبيعي لكبار السن أن يحجوا إلى بيت الله الحرام. وهنا كانت بداية القصّة. كان واضحاً جداً أن سودة سرها الأمر، ولو أنّها كعادتها حاولت إخفاء مشاعرها وأجابت على عرض عمي بشيءٍ من الكبرياء: "ما بدي إلا سلامتك يما". لكنه يعرف أمه، فألح قليلاً وهي وافقت كثيراً وبسرعة كانت مسرورة للغاية بأنها ستحج لجوار رسول الله (ص) كما قالت.
ساعدنا أمي في تحضير الكثير من الأغراض لرحلة جدتي. وقتها لم يكن المخيّم كما هو اليوم، ولم تكن سهولة إحضار "عدّة" الحج وثياب الإحرام وما شابه أمراً سهلاً، بل بالعكس، كانت غايةً في الصعوبة، حتى إنه في بيروت بأكملها لم يكن هناك إلا بعض المحال المحددة التي تبيع هكذا حاجيات. سعى والدي بكل قواه لتأمينها، لأن جدتي لن تذهب إلى الحج دون "أغراض" الحج، باختصار حُضرت أفضل الأغراض لرحلة الحج. تقمصت سودة قبل رحيلها شكل الحاجة، فكانت تحاول بكل طاقتها ملاطفتنا- على غير عادة- وطبعاً هذا على قدر ما تستطيع، فلم تنهر بنا كثيراً في ذلك الأسبوع، ولم تنظر لنا "متحلفة" إذا ما رفعنا أصواتنا أثناء لعبنا في الطريق المجاور لشباكها. مثّلت ستي سودة الأمر علينا بطلاقةٍ فريدة، ونحن أعجبتنا شخصيتها الحاجة أكثر من اللازم، حتى إنني حينما دخلت مرةً كي أنده عليها قالت لي: ناديلي حجة حبيبتي. طبعاً "حبيبتي" هذا كان من أرفع أوسم المحبة لديها، وكانت في الغالب تستخدمها مع الفتيات الغريبات، ونادراً ما جربته علينا، لذلك كان الشعور فريداً من نوعه وغريباً في آنٍ معاً.
بعد أيامٍ قليلة، عرفنا أنّ عمّي –صاحب دعوة الحج لجدتي- قد ارتأى أن يأخذها بالطائرة إلى الحج بدلاً من البر كما كان سائداً، ورغم أنه كان مكلفاً إلا أنَّ عمي أراد أن يخفف عبء الطريق عنها. وسودة لم تكن تعرف أصلاً ما معنى الرحلة بالطائرة، هزّت رأسها موافقةً باعتبار أن السفر هو سفر سواء أكان بالطائرة أم بالباص كما فهمنا منها. بعد ذلك حان اليوم المشهود، ودعتنا جدتي واعتقدنا جميعنا بأنها ستبكي، وبأن قليلاً من دموعٍ تجمع في عينيها وكاد ينزل، لكنها لم تفعل، بل نحن بكينا وكثيراً وتذكرنا عندما استلمتنا سودة بأنها "ستهج منا الى الدانمارك" وأبكتنا عليها لأيام، لكنها في نهاية الأمر، لم تغادر البلد، لم تفعلها يوماً. ذكرتنا قبل أن تذهب بالمحافظة على أغراضها، وأشارت على أمي بأنها ستعود لذلك عليها أن تمنعنا جميعاً من دخول غرفتها والعبث بمحتوياتها، وهو ما أكدت أمي على قدسيته وعدم التفريط به. باختصار توجّهت ستي سودة إلى المطار كي تستقل الطائرة للحج، ونحن فرحنا بأنّها ستفعل، لا لأنَّها ستتركنا كما قد يعتقد البعض (فبالرغم من كل شيء، لم نتخيل حياتنا بدونها يوماً) بل لأنها ستحكي لنا عن الطائرة، ذلك الكائن الذي لم نكن لنعرفه إلا في القصص والحكايا ومن مشاهدات لبعض الطائرات المحلّقة نظراً لقرب المطار من المخيّم حيث كان أبي يأخذنا لنتفرج على الطائرات).
بعد ساعات قليلة، كان الظلام قد بدأ يخيّم، وإذ بنا نسمع طرقاتٍ ثقيلةٍ على الباب، هرع أخي لفتحه، فسمعنا صوت جدتي تقول له: "اسّع جاي من وجي (بمعنى ابتعد من طريقي) العمى بعيونن قطعوا نفسي؛ حدا بيركب تابوت، حدا بيركب تابوت؟". صارت تكرر الجملة مراراً، خرجنا نحن الأحفاد معتقدين بأنها عادت من رحلة الحج السريعة، لكن شكل سودة مع تعابير وجه والدي ووالدتي جعلتنا نصمت أكثر. عرفنا بعد ذلك بأنَّ جدتي حالما صعدت إلى الطائرة أصابها نوع من الاختناق، وصارت تصرخ حتى بدا عليها أنها ستفقد الوعي، مما اضطر بالمضيفات إلى إنزالها من الطائرة رأفةً بها وبالمسافرين الآخرين، بعد نزولها أصرت بشكل كلّي على أنّها لن تصعد إلى الطائرة مرةً أخرى، ورغم محاولات عمي إلا أنَّ الأمر باء بالفشل، وسودة ظلت تردد: "حدا بيطلع بتابوت بيطير؟ بدك تطلعني بتابوت بيطير؟ عمرا ما تكون هالحجة اذا هيك".
بعد مدةٍ قليلة ركبت جدتي البولمان (الذي يستعمل للسفر البري والحج إلى السعودية)، شأنها شأن مئات الحجاج الآخرين وعلى وجهها ابتسامة ارتياحٍ كبرى، كانت لربما واحدة من أكبر الابتسامات التي رأيتها في حياتي.

0 تعليق

التعليقات