بعد تونس، أشعلت الانتفاضة في مصر الحراك الشعبي في الأردن، حتى قبل سقوط حسني مبارك. وربما لأول مرة، تعج عمان بتظاهرات ضخمة، دعماً لمصر، لكن لكي تطالب بـ«الإصلاح». استمر الوضع على ذلك شهراً تقريباً، ثم بدأ العدد يتناقص، والحماسة تخبو. وهو الوضع الذي لا يزال قائماً، إذ يزيد العدد قليلاً أو كثيراً، لكن في حلقة تضم الأحزاب السياسية المعارضة، وبعض النخب. يزيد العدد حينما يشارك حزب جبهة العمل الإسلامي، وهو قلما يشارك، وحين يفعل فمن أجل الضغط على النظام فقط.لكن تلك «الهبة» أفضت إلى ما يمكن أن نطلق عليه انفلات الحراك الاجتماعي، الذي تمثل في انتشار أشكال الإضراب والتظاهر والاعتصام، في العديد من المدن والقرى في الجنوب، وأحياناً في الشمال. مع توسّع نشاط لجنة المتقاعدين العسكريين، واللجنة المعنية بتأسيس نقابة للمعلمين. فقد حدثت إضرابات عمالية متعددة في مناطق مختلفة، وحالات احتجاج في العديد من المدن الجنوبية. وهو حراك لا يزال مستمراً، وقد يتوسع، مع تقلص الحراك الأساسي في عمان، ومراوحته بين الحيوية والسكون.
ولقد بدا حراك عمان كحراك لنخب، سواء الأحزاب أو حتى الشباب والشخصيات المتعددة الاتجاهات. وهو ككل حراك نخبوي، خضع لتجاذبات سياسية كانت تفقده الفاعلية الضرورية. فقد بدا أنّه دون هدف: فهل هو مع الإصلاح أم مع التغيير؟ ورغم أنّ الحراك العربي رفع شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، لم نلحظ أنّ هذا الشعار قد تكرر في التظاهرات، حتى في فترة الأعداد الكبيرة. وبدا واضحاً أكثر أنّ النخب لا تريد طرح ذلك الشعار، لذلك تاهت في نقاشات حول الهدف من الحراك، بعدما أصبح واضحاً أنّه «إصلاحي»، لا تغييري. وكان ذلك الموضوع الذي أفضى إلى تشتت واختلاف. فهناك من بدأ المطالبة بـ«ملكية دستورية»، وهو مطلب كان يتردد منذ مدّة، دون أن يصبح مجال توافق، أو حتى فهم. فما الذي تعنيه الملكية الدستورية؟ البعض ركّز على أنّ المطلوب هو أن تكون الحكومة منتخبة من البرلمان، من الحزب الذي يحظى بأكبر عدد من المقاعد فقط. والبعض رأى أنّ المطلوب هو تحديد صلاحيات الملك، كما في بريطانيا أو إسبانيا، وأن تصبح السياسة من صلاحية الحكومة التي يؤلفها البرلمان المنتخب.
لكن كان هناك أيضاً من يطالب بتحقيق تعديلات دستورية فقط، أو العودة إلى دستور 1951، الذي صيغ في فترة حكم الملك طلال. والهدف، كذلك، هو إنشاء نظام برلماني ديموقراطي.
وفي هذه الفوضى بدا الحراك دون هدف، أو كانت تتعدد المطالب المطروحة وتتناقض، وأفضى إلى انسحاب قوى، وفتور همة أخرى. ولا شك في أنّ كلّ ذلك النقاش لم يكن يلمس مشكلات الناس، الذين بدأوا الحراك في الأطراف، وكانت مطالبهم اقتصادية ومعيشية واجتماعية، ونقابية في الغالب. لهذا كان يبدو أنّ في الأردن حراكين، واحد نخبوي في عمان، وآخر شعبي في الأطراف، دون تواصل، أو مع تواصل قليل، بينهما. في الأول يطغى السياسي، ويحمل تناقضات كثيرة، والآخر مطلبي اجتماعي واضح الأهداف.
فمثلاً، أصبحت مسألة «دسترة فك الارتباط» بين الضفتين، الشرقية والغربية، مجال سجال صعب، ومقذع، كان يفضي إلى تناقض المشاركين في الحراك ذاته، ويؤسس لنشوء (أو تصاعد) نزعة «إقليمية» تحفر على نحو سيّئ في الحراك، إذ أصرّ البعض على أنّ الإصلاح السياسي لا يمكن أن ينجح دون تحويل قرار الملك حسين الصادر في 1988 بفك الارتباط بين الضفة الشرقية والضفة الغربية، بناءً على طلب فلسطيني/ عربي، إلى جزء من الدستور، من خلال تحديد حدود المملكة من جديد، وتحديد من يحق له الجنسية الأردنية. وهي فكرة تطاول جزءاً من الفلسطينيين بالأساس، وارتبطت بميل «شرق أردني» إلى «مقاومة» تحويل الأردن إلى «وطن بديل» للفلسطينيين، انطلاقاً من الحجم العددي للفلسطينيين في الأردن، إذ كان يجري الاعتقاد بأنّ كلّ انتخابات ديموقراطية سوف تسهل حصول الفلسطينيين على أغلبية في البرلمان، تستطيع أن تقلب الأردن إلى فلسطين. لهذا أصبحت مسألة تحديد من هو الأردني مسألة ساخنة، وبات هناك من يعمل على تحديد الانتماء لسنوات طويلة سابقة. وأهمية دسترة فك الارتباط وفق ذلك، تكمن في أنّها تخرج جزءاً من فلسطينيي الأردن من الجنسية، في سياق تقليص «الصوت الفلسطيني»، كأن المسألة الانتخابية سوف تقوم على هذا الفصل بين الأردني الأصل، والفلسطيني الأردني.
ولقد ارتبط ذلك مباشرة بمسألة الوطن البديل، وكما أشرنا، نشأت كصيغة من أجل مقاومته، و«هزمه». ولا شك في أنّ لدى الدولة الصهيونية رؤية لـ«حل القضية الفلسطينية» في الأردن، كانت تسكن الوثائق السرية في الغالب، وتتسرب أحياناً، لكنّها طرحت بـ«فظاظة» بعد تأليف حكومة نتنياهو، التي ضمت تيارات «متطرفة» تعلن أنّ الأردن هي فلسطين، لكن بدل مواجهة المنطق الصهيوني، وتلمس أنّ الأمور تسير نحو نقل المشكلة الفلسطينية إلى الأردن من قبل الدولة الصهيونية، أصبحت المسألة تتعلق (انطلاقاً من منطق ميكانيكي يلبس هذا الموقف لجهات أخرى) بـ«اتهام» فلسطينيي الأردن بحمل هذه الفكرة، وخصوصاً مع بروز سيطرة شخصيات فلسطينية على الحكومة، ثم على مجلس الأعيان، وآخرين. وجرى أيضاً تحميل شخصيات فلسطينية عبء اللبرلة التي اجتاحت الأردن منذ تسعينات القرن العشرين. كأنّ اللبرلة ليست سياسة إمبريالية تفرض من خلال النظام ذاته، في سياق تعميم الليبرالية منذ انهيار الاشتراكية، كما حدث في بلدان كثيرة.
وبما أنّ اللبرلة تعني التخلي عن «القطاع العام» وتقليص موظفي الدولة والجيش، وهم في الغالب من أصل شرق أردني، بدت المسألة كأنّها إبعاد الشرق أردنيين من الدولة لمصلحة سيطرة فلسطينية. هكذا جرى تفسير الأمور، ومن ثم «الخوف» من «الوطن البديل» هاجساً يستثير «نعرة» شرق أردنية. رغم أنّ المسألة، تتعلق برؤية صهيونية لا بـ«مشروع فلسطيني». وبهذا، أصبح الصراع بين النخب على موضوع من مع ومن ضد الوطن البديل، رغم أنّ أحداً لم يكن معه، وأنّ الرافضين يبنون مواقفهم على توهمات لا تحليلات علمية. ولما كان الحراك يضم من كل «المنابت»، فقد أفضى افتعال هذه المسألة إلى تشققات، وتلاسنات وصراعات، كانت تنعكس على الحراك فتوراً وإحباطاً.
المسألة الأخيرة التي ربما كانت قاصمة في تلاشي الحراك هي الموقف مما يجري في سوريا. فقد ظهر أنّ ما يجري في سوريا هو أهم مما لا بد من فعله في الأردن، رغم أنّه كان يوحد كل هؤلاء المتصارعين حول القضايا المشار إليها للتو، إذ انتقل الصراع للدفاع عن «الممانعة» في سوريا بالحديث عن المؤامرة، ورفض التدخل الإمبريالي، وبالتالي أصبح النشاط يذهب أكثر في هذا المجرى، وليصبح الحراك الداخلي ضعيفاً أكثر، لكن هذا الموقف كان يطرح الأسئلة عن كيف يمكن طرح مطالب في الأردن، والعمل على خلق حراك شعبي، وانتفاضة كما جرى في تونس ومصر، في الوقت الذي يجري فيه رفض مطالب الشعب السوري والتشكيك فيها؟ فهذا الشعب يطالب بالحرية وإنهاء القبضة الأمنية، وهي مطالب مطروحة في الحراك الأردني. وبالتالي كيف ترفض انتفاضة شعب والمطلوب في الأردن هو تحريك الشعب من أجل الانتفاضة؟ الأسوأ هو أنّ كل المجهود بات يتمحور حول الدفاع عن «سوريا الممانعة».
في هذا الوضع، ظل الحراك في الأطراف مستمراً ويتطور، بينما بات حراك النخب يتخبط، يضعف ويشد، وسرعان ما يتراجع، دون رؤية واضحة حول الهدف من الحراك، إذ لم يحسم بعد هل مطلوب الإصلاح فقط (وخصوصاً أنّ الملك أجرى عملية إصلاح هامشية) أو لا بد من وضوح الهدف الذي يعني تجاوز الخطوط الحمر، والتوافق مع الانتفاضات العربية من أجل تحقيق تغيير عميق في كل الوضع العربية، يطاول النمط الاقتصادي والبنية السياسية والموقع العالمي. وبالتالي هل يمكن أن يطرح هدف تأسيس جمهورية ديموقراطية في نظام ملكي؟ فإذا كانت التغييرات التي حدثت في الخمسينات لم تمس هذا الموضوع في بعض البلدان العربية، ومنها الأردن، فمن المؤكد أنّ الموجة الجديدة سوف تصل إلى هذا الحد، ولا بد من أن تصل إلى هذا الحد، وبالتالي بدل الخشية من لمسها من الضروري وضعها في الأفق. ولا يجوز أن يحكمنا التردد في هذا المجال، إذ لم يعد ممكناً الاستمرار في هذا النمط من النظم. ولهذا لا بد من تجاوز كل هذا النقاش الهامشي والمسيء، سواء حول الدسترة (لأنّ المسألة لا تحل عبر الانتخابات وحساب ميزان القوى على أساس «إقليمي»)، أو حول الوطن البديل (فهي فكرة صهيونية، إسقاطها يتحقق عبر تأسيس دولة وطنية)، ومن ثم تحديد الهدف (وإن لم يطرح الآن) الذي هو: إسقاط النظام.
لكن، لكي يتوسع الحراك كيف يمكن تحقيق الربط مع الحراك المطلبي في الأطراف؟ لقد حاولت بعض النخب تقليد ما جرى في مصر خصوصاً، من خلال التركيز على حشد «مليوني» في العاصمة، في وضع لا يسمح بذلك. فقد شهدت مصر حراكاً طبقياً وسياسياً كبيراً طوال السنوات العشر السابقة، وهو الأمر الذي جعل الوضع يحتاج إلى لحظة لكي يتحوّل إلى انتفاضة على النحو الذي جرت فيه، بينما كان الحراك الأردني نخبوياً، ومن قبل الأحزاب طيلة الفترة الماضية، مع بعض الإضرابات هنا أو هناك في السنوات الأخيرة. ولقد توضّح في الأردن أنّ الوضع «ليس ناضجاً» لانتفاضة، بالتالي من المهم العمل على تطوير حركات الاحتجاج في الأطراف، ربما زحفاً على العاصمة. وإذا كان الحراك الأول قد فتح الباب لتحركات اجتماعية، فعلينا أن نوسعها من أجل إعادة بناء الحراك الذي يفضي إلى انتفاضة. وهنا لا بد من التركيز على أشكال الإضراب والاحتجاج والمطالبة في كل المناطق، من أجل أن تفضي إلى انتفاضة. بمعنى أنّ الحراك المطلبي سابق لانتفاضة سياسية، وممهد لها.
وإذا كانت الحركة الاجتماعية متواصلة، فما يبدو ضرورياً هو عمل النخب على نحو صحيح، وأيضاً بعيداً عن تكتيكات الأحزاب التي تلعب من أجل الضغط على السلطة. فالأساس هو تطوير حركة الاحتجاج الاجتماعي لأنّها تمثل الحراك الشعبي الحقيقي.
*كاتب عربي