احتُجز «شارع هوفلان» ثمانية أشهر في أدراج الأمن العام، قبل أن يسمح له بالعرض بنسخة «لطّفها» مقصّ الرقيب. ربما يظلّ قدوم مارون نصّار ــ كاتب الفيلم وحامله ـــ من عالم الاقتصاد إلى عالم السينما، وتعرّض العمل لبطش الرقابة، النقاط الأكثر إثارة في هذه التجربة. إذا راجعنا تاريخ السينما اللبنانية حتى أواخر التسعينيات، نقع على عدد من التجارب التي يمكن تصنيفها في خانة «سينما المؤلف» المحدودة الإنتاج،
التي تمكنت من المشاركة في مهرجانات مرموقة والفوز بجوائز أحياناً. لكنها بقيت قليلة الانتشار، واتهمت «بالنخبوية». السنوات الأخيرة شهدت السينما اللبنانية انتقال نادين لبكي من عالم الفيديو كليب إلى السينما عبر «سكر بنات» الذي حظي بإقبال جماهيري واسع في لبنان والعالم، وقطع مع «تهمة» النخبوية. النجاح الذي ناله توزيع الفيلم فتح الباب أمام جيل من الشباب اللبناني شارك في صناعة سينما لبنانية «غير نخبوية» وقادرة على بلوغ جمهور كبير.
قد تكون هذه الحماسة للفن السابع هي التي دفعت بمارون نصار إلى كتابة «شارع هوفلان» وإنتاجه. فيلم يريده صاحبه «احياء لذاكرة» مرحلة خاصة في تاريخنا الراهن، أواخر التسعينيات، تميّزت بحركة احتجاج طلابية في «جامعة القديس يوسف» في شارع هوفلان في الأشرفية، حين كان هو نفسه أحد الطلاب المشاركين في الأحداث التي يرويها الفيلم. طوّر الأخير سيناريو الفيلم انطلاقاً من مذكراته، وأوكل بإخراجه إلى اللبناني منير معاصري. لكن هل تكفي حماسته للفن السابع لتقديم عمل سينمائي؟ أين هو الفعل السياسيّ/ الفنيّ في الفيلم؟
من حيث الشكل، يتبنّى الشريط الصيغ الناجعة لضمان نجاح الأفلام التجارية. التظاهرات الطلابية واصطدامها بقمع السلطة اللبنانية الآتية على الدبابة السورية، تشكّلان السياق الدرامي والحبكة السردية للعمل. سياق يؤمن كل عناصر التشويق، ويحتوي ما يلزم لإثارة مشاعر الجمهور، سيما عند توافر مشاهد مثل ضرب التلاميذ واعتقالهم وتعذيبهم من قبل السلطات القمعية.
ومن الاستحواذ على اهتمام المشاهد، يعتمد الفيلم على تسارع الأحداث، ضارباً عرض الحائط بالصمت والتأمّل والمسافة النقديّة. ينطلق الشريط من لحظة مقتضبة لكن مؤثرة في أول الفيلم (اعتقال إيف وتعذيبه) لجذب المُشاهد وبناء التوتر المتصاعد. ثم تصعيد وتيرة الأحداث لبلوغ المشهد الذروة الذي يعيد تمثيل المشهد الأول لكن مع مضاعفة جرعة الأداء (اعتقال جو دانييل وتعذيبه). ولتجنب المخاطرة في بناء شخصية درامية قوية، تتوزع البطولة على مجموعة من الشخصيات (سبعة طلاب من الجامعة)، ما يعفي من التوغّل في تركيب الشخصيّة، والتمهّل أمام الحدث التاريخي. كذلك ترسم الشخصيات المحوريّة، تبعاً لوصفة مضادة ترتكز على صور نمطية اجتماعية، مما يسهّل تماهي المشاهد مع أفراد المجموعة على الأقلّ. وللتخفيف من التوتر الدرامي للفيلم، تلجأ هذه الصيغ عادةً إلى تلوين المشاهد بقصة غرام خفيفة، ومشاهد جنسية لا تضفي أي بعد درامي على الطرح الفني للعمل.
لا ضرر في اللجوء إلى صيغ مماثلة في كتابة الأفلام، ما دام الهدف تقديم فيلم تجاري تشرّع أمامه الصالات المحليّة والخارجيّة، خصوصاً إذا كان خطابه السياسي متوافقاً مع المزاج المهيمن في رسم الحدود الفاصلة بين الخير والشرّ، بين الوطنيّة والاحتلال. لكن ارتباط «شارع هوفلان» بذاكرة فعليّة محمّلة بخطاب سياسي واضح المعالم، يجعله يتخطّى الصيغة التجارية إلى شعور بالحنين إلى حقبة كان فيها النضال الشبابي الجامعي ناشطاً. لكن أين هو دور السينما عندما نقرر نقل التاريخ إلى الشاشة؟ وكيف يلجأ شريط نصّار/ معاصري إلى ملء الفجوات في السياق التاريخي الممتدّ من أواخر التسعينيات إلى اليوم؟ وهل صحيح أنّ التحركات الطلابية انتصرت مع انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005، كما يخلص الفيلم في نهايته السعيدة؟
التحركات الطلابية في مايو 1968 في فرنسا، ألهمت أفلاماً كثيرة، ودفعت عدداً من المخرجين إلى المضيّ نحو مزيد من الراديكاليّة في نظرتهم إلى السينما، ومنهم جان لوك غودار الذي يقول في أحد أفلامه «متى كانت الصورة هي الحقيقة، فإن السينما هي 24 مرة الحقيقة في كل ثانية». عن أية «حقيقة» سينمائيّة ترانا نبحث في ««شارع هوفلان»، في ضوء تعامله الفنّي والفكري والإبداعي مع مرحلة حاسمة في ذاكرتنا الجماعيّة؟

«شارع هوفلان»: «سينما سيتي» (01/899993)، صالات «أمبير» (1269)




بطولة جماعية

تتوزّع بطولة الفيلم على 7 شخصيات: إيف المثقف يقابله وديع المفتول العضلات الذي لا يفكر سوى بالبنات. وسيرج السياسي الوصولي، وجو دانييل الناشط الراديكالي. وأخيراً، نرى الفتاة ياسمين المحتشمة، المؤمنة، وابنة الشهيد، ما يكمل هالة عذريتها، تقابلها كارلا المتحررة. وتبقى الشخصية السابعة لا رأي لها ولا فعل، لكنها موجودة لأن الرقم سبعة يوحي بالكمال!