في التراث التركي قصّة شهيرة عن مقتل "ألب أرسلان"، القائد السلجوقي المحارب الذي ركّز دعائم سلالته وجعلها امبراطورية، وأدخل الأتراك الى الأناضول، وأسر امبراطوراً بيزنطياً في معركة مانزيكرت. يستعيد القصّة ايضاً أمين معلوف في روايته "سمرقند"؛ وهي، بالمناسبة، روايةٌ نصفها عن عمر الخيام ونظام الملك وحسن الصبّاح، ونصفها الثاني عن رجلٍ اميركيّ أبيض، كامل الأوصاف، يأتي الى ايران في أوائل القرن العشرين بهدف "تنويرنا" وتحضيرنا، نحن الشرقيين، وذلك عبر "بثّ الديمقراطية" في مجتمعنا. غير أنّه، بعد أن يحتكّ بنا ويتعرّف الينا، يُصاب سريعاً باليأس والإحباط. ويقرّر، في خلاصة الرواية، أنّ "الغرب غرب والشرق الشرق"؛ وأن الشرق له "روحه" الأزلية الساحرة، غير أنّه يبقى عصيّاً على العقلانية (بمعنى آخر، الخيار أمامنا هو بين أن نعتمد خطاباً محدّداً لنخبٍ غربية، ونستنسخه بحذافيره، وبين أن نعيش في عالم ألف ليلة وليلة). أخيراً، يقرّر بطل الرواية، بنجامين لوساج، أن يرحل عن ايران بعد أن هُزم حلفاؤه المحليون، فيتركهم بين قتيل ومعتقل ليرجع الى بيته الأميركي الهادىء، ثمّ يستنسب أن "يصادر" أثمن غرضٍ وجده في ايران وأغلى ما في تراثها، المخطوط الأصلي لرباعيات الخيّام، وأن يأخذه معه الى أميركا. كلّ هذه "الرمزيات" لم تبدُ إشكالية لدى كاتب الرواية والكثير من قرّائها العرب، ولكنهم طربوا "لرمزية" أن تكون قصائد الخيّام، في نهاية الأمر، قد رقدت في قاع المحيط داخل هيكل الـ"تايتانك" (هناك قصّة فيها شبهٌ بهذه الحادثة، ولكنّها حقيقية، حين استولى ثريّ أميركيّ بشكلٍ ما ــــ البعض يقول بالسرقة والرشوة والبعض يقول بالشراء ــــ على مخطوطٍ تاريخي رائعٍ لـ"الشاهنامة" من اسطنبول خلال الحرب العالمية الأولى. المخطوط، الذي يعود الى أوائل القرن السابع عشر، لا تفوق أهميته التاريخية الّا أهميته الفنية، وكلّ صفحة فيه مزينة بلوحات ومنمنماتٍ مدهشة، تروي قصة الملوك بصرياً بالتوازي مع النّصّ المكتوب. فأخذ المالك الجديد بتمزيق الكتاب وبيعه صفحةً صفحة، حتّى تمّ انقاذ ما تبقّى منه في صفقة تبادل فني شهيرة، وعاد المخطوط الى ايران في التسعينيات).

يوسف الخوارزمي

عودةً الى ألب أرسلان. هناك اختلافٌ في الروايات التاريخية حول تفاصيل الحادثة، وحول الكلمات الأخيرة للسلطان السلجوقي، وهل كانت غضباً وحنقاً أم تواضعاً واستسلاماً أمام قدر الله. ولكن العناصر الأساسية للقصة متّفق عليها. بعد أن أكمل ألب أرسلان تثبيت سلطته في بغداد، وهزم البيزنطيين ووصل حكمه الى المتوسّط، قرّر أن يضمّ وسط آسيا، تركستان، الموطن الأصلي لقومه. جمع ألب أرسلان جيشاً هائلاً من كلّ أطراف امبراطوريته وبدا أن غزوه لن يردّ. ولكن، بعد أن عبر بجيشه نهر "آمو داريا" (جيحون) بقليل، اصطدم بقلعةٍ صغيرة رفض صاحبها أن ينسحب أمام الجحفل المتقدّم، ولم يقبل بأن يستسلم ويسلّم موقعه.
بدلاً من محاصرة الحصن بقوّة صغيرة واستكمال الزحف، شعر الب أرسلان بالإهانة والتحدّي، وأصرّ على قهر القلعة بالقوّة الفائقة. المشكلة هي أنّ صمود صاحب القلعة طال بشكلٍ ينافي المنطق، وخسائر الجيش السلجوقي تراكمت، ومرّت الأسابيع وازداد معها تململ العسكر، والسلطان يزداد غيظاً واحتقاناً. أخيراً، حين تمّ نبش القلعة وقتل أكثر المدافعين عنها، أصرّ ألب أرسلان على أن يُقاد الضابط المسؤول أمامه، حتّى يتشفّى منه وجهاً لوجه ويصدر الأمر بإعدامه شخصياً. غير أنّ القائد، واسمه يوسف الخوارزمي، كان يحضّر لفعل مقاومةٍ أخير: حين أصبح في مواجهة السلطان، أخرج سكيناً كان يخفيها وقفز عليه بلمح البصر وتمكّن، قبل أن يصل اليه الحرّاس، من طعنه طعنةً أدّت الى موته بعد أيّام ــــ وهو في أوج سلطانه ولمّا يزل في مقتبل العمر.

ابو حرب

منذ ابتدأ الغزو الغربي في المنطقة، مترافقاً مع انهيار المؤسسات المحلية التقليدية، صار تاريخنا الحديث يقف على شخصيات من نمط "يوسف الخوارزمي": أفرادٌ استثنائيون، أحزاب وحركات صلبة، صغيرة، مقاتلة، مثّلت الحاجز الوحيد الذي وقف بيننا وبين أن يحكمنا "بنجامين لوساج" ورفاقه. نتكلّم هنا على صنفٍ من البشر لا يضيره أن يخوض معركةً مستحيلة في وجه جيشٍ يملأ الأفق ــــ على أمل أن يلوح له السلطان للحظة. "ابو حرب"، أو الشهيد حسن الملصي، هو مثالٌ على هذا النمط من المحاربين، ولو تأمل السعوديون ــــ وداعمو الحرب من خلفهم ــــ قليلاً في سيرته، لفهموا معنى حرب اليمن وكم أنّهم أخطأوا التقدير.
تناقلت وسائل الإعلام الخليجية خبر مقتل "ابو حرب" بحبور وانتصارية، تماماً كما قدمت البروباغاندا السلجوقية مقتل يوسف الخوارزمي على أنّه انتصار، بعد أن كان قد وجّه الى ملكهم طعنة الموت. قالوا عنه إنّه حوثيّ، وقالوا إنّه من ضبّاط علي عبد الله صالح، والقصّة الحقيقية أعقد من ذلك (أو أبسط). كان حسن الملصي ضابطاً في الحرس الجمهوريّ، ومن النخبة العسكرية التي تمّ إعدادها لمهام "مكافحة الارهاب"، وقد اجتمع ــــ لا ريب ــــ مراراً بضباط سعوديين وغربيين (وقد وضعت "القاعدة" ثمناً لرأسه)؛ وهو كان لصيقاً بإبن علي عبد الله صالح. كان في وسع "ابو حرب" أن يظلّ في الإمارات، أو أن ينتقل الى المعسكر الآخر، ولكن، ما أن بدأت الطائرات السعودية بقصف بلاده وضرب القرى اليمنية، حتّى ارتدى الزي اليمني التقليدي وذهب الى الجبال حيث اكتسب كنيته الجديدة، وبدأ بتخطيط الهجمات ضد القوّات السعودية، ممارساً "مكافحة الإرهاب"، لأول مرة، كما يجب.
قدّم "ابو حرب"، قبل أن يرحل، ابنه البكر شهيدا، ايضاً في مواجهة القوات السعودية؛ ولكن في قصّته أكثر من عبرةٍ تكشف ما لا يقوله الإعلام عن مأزق السعودية وعن مسار الحرب. أوّلاً، أنّ آل سعود قد استعدوا أكثر اليمنيين واستفزّوا كرامتهم، لا "أنصار الله" فحسب، وجعلوا القتال ضدهم واجباً قومياً. ثانياً، أنّهم يواجهون فئاتٍ تختلف عن تلك التي اعتادوا التعامل معها في المشرق؛ هي ليست نخباً تطمح الى المال والحياة في دبيّ ورضا الغرب (فكلّ هؤلاء، في اليمن، قد تجمّعوا في المعسكر الآخر)، ولن يمكن شراؤها أو التسوية معها بشروط الماضي. و، أخيراً، صحيحٌ أنّ أمثال حسن الملصي يسقطون شهداء في نهاية الأمر. ولكن اليوم، على الأقل، هم لا يُقتلون في بيوتهم وتحت أسوار مدنهم، بل يستشهدون وهم في عمق أراضي العدوّ.

السفينة "سويفت"

لم تكن "سويفت" أوّل سفينة حربية لـ"التحالف" يتمّ ضربها أمام سواحل اليمن، ولم تكن الضربة الأقسى (قُصفت "سويفت" مقابل شاطىء المُخا، التي شهدت كارثة عسكرية للجيش الاماراتي ومقتل أبرز ضباطه بضربة صاروخية منذ شهور)، ولكنها كانت الحالة الأولى التي يتمّ التقاطها بوضوحٍ على الفيديو، ولم يكن هناك مجالٌ للنكران. ادّعى التّحالف بدايةً أنّ "سفينة تجارية" تعرّضت لقصف، ونشرت "رويترز" تقريراً بذلك. ثمّ ادّعى "التحالف" أن "سويفت" ليست عسكرية، وانها كانت توصل "مساعدات انسانية" الى عدن. الحقيقة واضحة بالطّبع: "سويفت" سفينة امداد وإنزال عسكرية، بُنيت لتكون نموذجاً لنمطٍ جديدٍ من البوارج، وقد استأجرتها البحرية الأميركية لاختبارها، واستخدمتها لسنوات قبل أن تؤجّر الى الامارات ــــ وقد وضعت، منذ البداية، في خدمة الحرب على اليمن. في وكالة "جاينز" العسكرية تقرير مصوّر، يعود الى أشهر، عن "سويفت" في خدمة البحرية الاماراتية، وكيف انّها وُظّفت في انزالاتٍ وفي دعم الحملة العسكرية (على الهامش، الطاقم الذي يشغّل "سويفت" أجنبي على الأرجح، ولم ترشح أخبارٌ عن جنسياتهم أو مصيرهم).
حين أجبرت الرياض الأمين العام للأمم المتحدة على سحب ادانة السعودية بجرائم حرب في اليمن، علناً وأمام الجميع، كان ذلك إعلاناً، للمرّة الألف، بطبيعة العصر الذي نعيش فيه؛ وأنّ المنظمات الدولية أدوات، والإعلام أداة، بل والتعاطف والإنسانية أدوات (لا أحد يطالب بـ"حظر جوي" للطيران السعودي في اليمن، مع أنّها قضية بديهية وواضحة، وذلك لأنّه لا يوجد مشروع "تغيير نظام" هناك). لهذه الأسباب كلّها، اليمن وحيد، ولا معنى لـ"استصراخ الضمير العالمي" أو عرض صور الضحايا أو التذكير بأنّ السعودية تحاصر بلداً بأكمله، برّاً وبحراً وجوّاً. أو أنّه، بحسب احصاءات دوليّة "محايدة"، فإن ثلثي القتلى المدنيين الأبرياء في كلّ حرب اليمن (على كلّ الجبهات، وفي النزاع الخارجي والداخلي) قد قتلهم سلاح الجو السعودي.
المشكلة ليست أنّ "أنصار الله" يتلقّون دعماً من ايران و"حزب الله"؛ المشكلة هي أنّنا، مثلهم، نعيش مأساتنا وحربنا الخاصّة، ولا نقدر على إعانتهم كما يجب. لا نقدر على كسر الطوق الذي يحاصرهم، ولا على إرسال المساعدات والسلاح اليهم (فهم لا يحتاجون الى مقاتلين)، ولا حتّى على متابعة حربهم واختبار يومياتها معهم ــــ ولو كان في وسعنا، لكانت كلّ هذه الأمور من أقلّ الواجب. سيأتي يومٌ تثمر فيه هذه التضحيات وتتكامل، ويتحرّر المشرق واليمن معاً من شجرة السّوء، وقد تصبح عدن "دبي" جديدة، بديلة، لنا. ولكنّ الأساس اليوم هو أنّ ابن سعود صار يواجه "ابا حرب" في كلّ مكان، وأن أمثاله من لبنان الى سوريا والعراق واليمن صاروا صفّاً ضدّه، وهم يدنون من الإطباق عليه.