بالنسبة الى الباحث مايكل رينولدز، فإنّ كلّ من يشتكي من غياب حكم القانون في تركيا أو استنسابية القضاء أو ملاحقة الخصوم السياسيين، عليه أن يبدأ من "أصل الخطأ"، أي قضية "أرغنيكون"، وقد تواطأ فيها الجميع: الاسلاميون، الليبراليون، الأكراد، كلّهم صمتوا حين تمّت ملاحقة مئات الضباط الكماليين، وادّعى المحققون أنّهم قد كشفوا مؤامرة خطيرة، يخطط فيها الجنرالات لاختلاق قلاقل في البلاد، وهجمات ارهابية، وصولاً الى السيطرة على الحكم وإنهاء "التجربة الديمقراطية" في تركيا.في ذلك الحين، كان الليبراليون الأتراك لا زالوا يربطون بين سلطة الدولة والقمع وبين الكمالية والجيش، واعتبروا أنّ القضاة والمحققين ينالون من أعدائهم؛ فدافعوا عن المحاكمات في الإعلام الغربي، الذي قدّم الملاحقات بضوءٍ ايجابي، معتبراً أنّها تدعيمٌ لـ"الديمقراطية التركية"، وحمايةً لها من الانقلاب العسكري والوصاية التاريخية للجيش. المشكلة، باختصار، هي أنّ أغلب التّهم ونظرية الادّعاء كانت ملفّقة بشكلٍ واضح. حين بدأت المحاكمات، وعرض المحققون "الأدلة" حول تورّط الضبّاط، تمكّن باحثون عاديّون، أتراك وأجانب، من اثبات أنّ الكثير من هذه الوثائق لا يمكن أن يكون حقيقياً وقد زوّر من دون شك (مثلاً، تستخدم بعض الرسائل خطّاً لاتينياً رقمياً لم تنتجه "مايكروسوفت" الّا بعد سنوات من تاريخ الوثيقة المزعوم، ورسائل يُفترض أنها كُتبت عام 2002 ولكنها خُطّت على برنامج "وورد 2003"، الخ).
بعبارات أخرى، ما جرى في "ارغنيكون" ــــ وبعدها قضية "المطرقة" المشابهة ــــ كان مؤامرةً سياسية مكشوفة، وانتقاماً مؤجّلاً للإسلاميين من أولئك الجنرالات الذين نفّذوا "الانقلاب" ضدهم عام 1997. استخدمت الحكومة الجهاز القضائي لتلفيق تهمٍ ضدّ أعدائها في الدولة، وزُجّ المئات في السّجن بادّعاءات باطلة، وقد جرى ذلك كلّه بتأييدٍ ضمني من الإعلام والحكومات الغربية. في هذه المحاكمات، كان أكثر قضاة التحقيق البارزين ينتمون الى جماعة فتح الله غولن.

اسلاميون في الدّولة

يجب التذكير هنا بنقطةٍ مهمّةٍ حول دخول الاسلاميين وجماعة غولن الى مؤسسات الدولة التركية، وعن الفارق بين الجيش والشرطة. يقول رينولدز إنّه، حتى أواخر التسعينيات، كانت صفوف الضباط عصيّة على اختراق الاسلاميين. كان الجيش يراقب تلاميذ المدرسة الحربية والضباط الشباب بعناية بحثاً عن أية ميول اسلامية (ولو من قبيل الامتناع عن الكحول)، وكان هناك قانونٌ واضح، أعادت انتاجه أجيالٌ من الضبّاط، بأنّ الضابط الرفيع في الجيش هو أتاتوركي علماني حصراً. قبل عشرين عاماً ــــ يكتب رينولدز ــــ كان يكفي أن تقرّر زوجتك أن ترتدي الحجاب حتى تنتهي مسيرة ترقياتك في الجيش التركي.
أمّا جهاز الشرطة فكان وضعه مختلفاً، وكان من اليسير نسبياً على الاسلاميين دخول صفوفه، فهيمنوا ــــ منذ ما قبل وصولهم الى السلطة ــــ على الكثير من مرافق الشرطة وعديد ضباطها. أمّا بعد عام 2002، فقد زالت العوائق في مؤسسات الجيش والقضاء وغيرها، وبدأت الأحزاب الاسلامية بتعيين أنصارها بكثافة في هذه المراكز. في هذه المرحلة تحديداً تسلّل أتباع غولن الى مفاصل الدولة التركية، وقد جرى ذلك بالتحالف مع حزب أردوغان، بل بتشجيعٍ منه. يقول رينولدز إنّ قيادة "العدالة والتنمية" كانت تدفع، عن قصدٍ، بأنصار غولن الى المناصب الحساسة في القضاء والبيروقراطية نظراً لأنّهم "نخبة اسلامية"، متعلّمة ومدرّبة جيداً، ويمكن لها أن تؤدّي، بكفاءة، الدّور "التنفيذي" للحكام الجدد ــــ وقد قام "الغولنيون" بتأدية هذا الدّور على أكمل وجه، في القضاء والدولة والإعلام، خلال محاكمات "أرغنيكون" و"المطرقة".
لم يقتصر استخدام القضاء على حالة الضبّاط الكماليين و"أرغنيكون"، بل تحوّل الى نمطٍ عام في الحياة السياسية، ومؤشر على انتهاء "حكم القانون" و"قواعد اللعبة" الديمقراطية (أو أنّها لم تكن موجودةً أصلاً). أصبح كلّ أعداء أردوغان وغولن عرضةً لملاحقة القضاء والشرطة، وهدفاً لتلفيقاتٍ لا يمكن التنبؤ بها؛ وبعد ضرب أعدائهم في الجيش، اتّجه الحكّام الجدد الى ساحة الإعلام والثقافة: صدرت أحكامٌ طويلة بسجن كتّاب وصحافيين نشروا كتباً عن جماعة غولن، وقد دمّرت حياتهم بشكلٍ مثّل إنذاراً لكلّ من يتجرّأ على إغضاب الحزب الحاكم وحلفائه. الليبراليون، الذين دعموا الاسلاميين في وجه الكماليين، لم يتنبّهوا الى "سلطوية" أردوغان والى انتهاكه لاستقلالية القضاء، وقواعد الديمقراطية وحرية الرأي، الى أن وصلت الدعاوى والمضايقات والإغلاقات اليهم شخصياً، والى صحفهم وقنواتهم.

انكسار التحالف

عام 2013 وقع الصدام بين غولن وأردوغان، وقد وجّه غولن ــــ أقلّه في العلن ــــ الضربة الأولى. المقدّمة للخلاف كانت مع قرارٍ للحكومة بمنع مراكز التحضير الخاصّة للإمتحانات الرسمية، وهو قرارٌ موجّه بوضوح ضدّ معاهد غولن (وحركته تعتمد بشكلٍ كبيرٍ عليها لجذب الأنصار وتجنيد التلاميذ المتفوقين). جاء ردّ غولن عنيفاً ومفاجئاً: يوصّف مايكل رينولدز كيف أعاد الداعية الاسلامي توجيه الماكينة القضائية التي اضطهدت الكماليين وغيرهم في السابق؛ ولكن، هذه المرّة تحرّك المحققون ضدّ أردوغان وأركان حكمه. بدا وكأن أنصار غولن في الدولة والقضاء يحاولون إخراج "العدالة والتنمية" من السلطة بالكامل، تحت دعاوى فسادٍ وتآمر. وأنّهم قد أعدّوا، بعناية، ملفّاتٍ ضدّ أبرز شخصياته، هي نتاج أشهرٍ من المراقبة والتنصّت. داهم المحققون بيوت وزراء أردوغان، واعتقلوا ابناء عدّة وزراء بتهم فساد وتلقي رشاوى. وحين ثار أردوغان واتهم الـ"غولنيين" بتشكيل "دولة عميقة" والتآمر على حزبه (بعد أن كان يسخر من مثل هذه الادعاءات حول قوة غولن)، قام المحققون بتسريب التسجيل الشهير لرئيس الوزراء وهو يكلّم ابنه ليلة المداهمات، ويطلب منه "أن يُخرج المال" من المنزل لأن الشرطة قد تقتحمه وتفتّشه؛ والإبن يشتكي من أن كمية المال كبيرة جداً، وليس من اليسير نقلها سرّاً وتأمينها.
تسجيل أردوغان يشير، من دون شكّ، الى أمرٍ مريب، وهو يكفي لإنهاء الحياة السياسية لمسؤولٍ منتخب في أكثر "الديمقراطيات الغربية". لم يقدّم أردوغان، الى اليوم، تفسيراً لما ورد في المكالمة، واكتفى بالإدّعاء بأنّ الشريط مزوّر وانّه قد تمّ التلاعب بصوته ــــ وهي الحجّة نفسها التي يستخدمها غولن كلّما خرج كلامٌ يدينه، سُجّل سرّاً خلال خطبةٍ له أو اجتماع. انقلاب تمّوز الماضي، بحسب رينولدز، كان الخطوة الأخيرة في الحرب التي انطلقت بين الاسلاميين عام 2013، وأخذ أردوغان خلالها بتطهير أجهزة الدولة من أنصار حليفه السابق. بل إنّ السبب الأساسي خلف توقيت الانقلاب ــــ برأي الباحث الأميركي ــــ كان اقتراب موعد تشكيلاتٍ عسكرية ستُزاح فيها رؤوس الضبّاط الموالين لغولن في الجيش، فقاموا باستباق هذا الإجراء عبر انقلابٍ أعدّ على عجل.

الدور الأميركي

يلوم رينولدز الحكومة الأميركية على إيوائها لغولن، حتّى بعد أن صار في حكم المؤكّد أنّه كان على صلةٍ بالإنقلاب ــــ ولنتذكّر هنا أن الجنرالات لم يهدفوا الى إخراج أردوغان من السلطة فحسب، بل الى قتله. الّا أنّ هناك عناصر أخرى لا يذكرها الكاتب، وهي من النّوع الذي لا يمكن تفسيره ببساطة على أنه قرارات "غير حكيمة" أو تصريحات "غير مدروسة" (من قبيل مساواة البيت الأبيض، في بيانه الأول الذي صدر بينما العملية الانقلابية ما زالت تجري، بين "الطرفين"). قام ضابطٌ أميركي رفيع بالاحتجاج بأنّ أكثر الضباط الأتراك الذين كانوا يقومون بمهام الارتباط مع الأميركيين قد تمّ عزلهم أو اعتقالهم، وهو تصريحٌ أثار غضباً في تركيا، غير أنّه يعكس واقعاً مريباً. الألوية الثلاثة التي شاركت بأكملها تقريباً في الانقلاب، وقد تمّ ــــ فعلياً ــــ تفكيكها واعتقال أكثر ضباطها، هي نفسها الألوية "الناتوية" في الجيش التركي: يقوم الـ"ناتو" بتدريب وحدات خاصّة في جيش كلّ بلدٍ عضو، تكون مدرّبة للعمل مع باقي الجيوش الحليفة في حال الحرب، وضباطها وأفرادها يتمّ إعدادهم وتجهيزهم بشكلٍ خاص، ويعقدون باستمرار المناورات والاجتماعات مع الضباط الأميركيين والغربيين. هذه الألوية، كلّها، كانت متورّطة في الانقلاب ورأس حربته. هل هي صدفة؟
يقوم أردوغان اليوم بتفكيك ما تبقّى من منظومة غولن، التي ساهم حزبه في بنائها وتكريسها، فيطرد الموظفين والقضاة الذين كان قد عيّنهم قبل سنوات. أكثر من يتمّ صرفه وعزله خلال هذه الحملة لا علاقة مباشرة له بالانقلاب، ولكن غالبية الشعب التركي ــــ يكتب رينولدز ــــ مقتنعةٌ بتورّط غولن، ويعتقد ما يقارب 80% من الأتراك أن شبكة غولن هي "منظمة خطرة" على البلاد. بمعنى ما، كلّ ما يقوله المتخاصمون في وجه بعضهم البعض صحيح: أردوغان يتخلص من أعدائه السياسيين، القضاء أداة في يده، وهناك ــــ في الوقت نفسه ــــ "دولة عميقة" ومتآمرون شنوا انقلاباً عنيفاً، وهناك دورٌ ما لواشنطن. العبرة هنا قد تكون أنّه يجب التحرّر، لدى مقاربة تركيا، من إسقاطات مصدرها نظرية التحول الديمقراطي (وهي الزاوية الأساسية التي يحلّل الجميع عبرها تركيا في السنوات الأخيرة)، أو أوهامٍ حول "سيادة القانون"، وتصديق الشعارات التي يستخدمها الفرقاء في مخاطبة الخارج. الـ"غولنيون"، على سبيل المثال، كانوا أبرز دعاة الديمقراطية الغربية والانتقال السلمي وسيادة القانون، حتى شهر تموز الماضي.