تبذير الأموال وهدرها صارا نمطاً في بلدية بيروت. هذه المرّة ستنفق البلدية 33 مليون دولار من أجل تسديد ثمن 3349 متراً مربعاً من العقار 320 في منطقة المدوّر العقارية، أي إن سعر المتر يبلغ 10 آلاف دولار. لهذا العقار قصّة طويلة مع بلدية بيروت، بدأت بخطأ ارتكبته البلدية في عام 1972، ثم جاء اليوم مَنْ يستغلّ الخطأ للانتفاع من أموال البلدية.
تعدٍّ مزمن

في الفترة التي سبقت الحرب الأهلية في لبنان، سجّلت بلدية بيروت العديد من التعديات على الأملاك الخاصة. لم تنفذ البلدية استملاكات وفق الأصول المعروفة، بل كانت تستولي على العقار ثم تترك مالكه يركض وراءها. ظهرت حالات عديدة في هذا الإطار، إلا أن البارز بينها التعدّي الحاصل على العقار 320 في منطقة المدوّر العقارية. ففي عام 1972 كان مجلس الإنماء والإعمار ينفّذ أشغال شقّ طرقات لمصلحة بلدية بيروت، وأقدم على اقتطاع 3349 متراً من هذا العقار، من دون أي تخطيط أو استملاك، وحوّلها إلى منشآت عامة «طريق، حائط دعم...».
الخطوة الوحيدة التي حصلت يومها هي تثبيت التعدّي الذي يسمّى «استملاك غير مباشر» كونه يتمّ بالقوّة خلافاً لأصول الاستملاك العادية. ولم يتحرّك الملف منذ ذلك الوقت، لا لجهة دفع التعويض من قبل البلدية ولا لجهة تقديم دعوى من قبل المالك للمطالبة بحقوقه. لكن المفاجأة كانت منذ نحو أربع سنوات حين قرّر مالك العقار، «الشركة المقفلة للإنشاءات العقارية»، المملوكة من إيلي زرد وأشقائه، وتوفيق معوّض وغابريال عبود (هم أنفسهم يملكون العقار المنشأ عليه فوروم دو بيروت)، اللجوء إلى القضاء للمطالبة بالتعويض عن التعدّي.
ولم يكن مفاجئاً أن يصدر حكم عن محكمة البداية يمنح المستدعي تعويضاً عن الأمتار المقتطعة من العقار الذي يملكه، إلا أن المفاجأة تمثّلت في احتساب قيمة التعويض بالاستناد إلى تخمين خبير معيّن من المحكمة يقدّر سعر متر الأرض في تلك المنطقة بنحو 10 آلاف دولار، أي إن مجموع التعويض المحكوم به يبلغ 33.49 مليون دولار تبعاً للمساحة المعتدى عليها، والبالغة 3349 متراً مربعاً.
المحكمة حدّدت سعر متر الأرض بنحو 10 آلاف دولار

مواقف مريبة

عند هذا الحدّ بدأت تظهر سلسلة من المواقف المريبة والمثيرة للشكوك. فما قامت به بلدية بيروت في هذا المجال هو الأكثر ريبة، إذ إن مجلس البلدية قرّر الامتناع عن استئناف القرار، وأصدر قراراً بالموافقة على دفع المبلغ استناداً إلى مصالحة تجرى مع الشركة، وذلك قبل أن يصبح الحكم مبرماً. ذريعة المجلس البلدي أنه لا مناص من تسديد هذه المبالغ بعدما تبيّن أن التعدّي ثابت وغير قابل للطعن، وبالتالي يجب دفع التعويض. المريب في هذا القرار أنه كان بإمكان المجلس البلدي الطعن في تقرير خبير التخمين والمفاوضة على دفع مبلغ أقل بكثير، إذ إن بعض الخبراء أبلغوا "الأخبار" أن هذا العقار يقع في منطقة عقارية تعدّ الأدنى لجهة عوامل الاستثمار التي يحتسب على أساسها السعر سوقياً. «في تلك المنطقة عوامل الاستثمار العام تبلغ 3، وهي الأدنى بين المناطق في بيروت؛ فهناك مناطق فيها عوامل الاستثمار 5، ومناطق أخرى 4 ومناطق 3.5 و3.25، أي إن قطعة الأرض هذه لا يمكن أن تكون قيمتها مساوية لقيمة عقارات المنطقة المردومة حديثاً في وسط بيروت! لا بل إن هذا العقار هو قريب من منطقة تكاد تكون غير مأهولة سكانياً، بسبب قربها من الكرنتينا حيث يوجد المسلخ وأمكنة لآليات سوكلين، وهي بالإجمال منطقة غير مرغوبة أصلاً، لذلك فإن سعر متر الأرض فيها لا يتجاوز 5 آلاف دولار، أما سعر المتر المبني فلا يتجاوز 3000 دولار، بينما القرار الحالي يجعل سعر المتر المبني يتجاوز 5500 دولار!».
ما يعزّز هذه الشكوك أن بلدية بيروت قرّرت دفع السعر بعد «تنازل» مالك العقار عن نحو 5 ملايين دولار (بينها ثلاثة ملايين من أصل المبلغ، وعن بعض الرسوم والفوائد) ليصبح المبلغ المتفق عليه للدفع 30 مليون دولار. المجلس البلدي لم يناقش في التفاصيل كثيراً، بل كان مسلّماً بأن القرار القضائي يمثّل فرصة لإغلاق هذا الملف من خلال تنفيذ عقد مصالحة مع الشركة المقفلة للإنشاءات العقارية، رغم أنه يمكن تطبيق الحكم القضائي وإبراء ذمّة المالك عن المبالغ التي قرّر تنزيلها من السعر الوارد في الحكم.

تجاوز صلاحيات؟

مسار عقد المصالحة مختلف، إذ يمرّ بوزارة العدل ثم ينتهي في ديوان المحاسبة للاستحصال على الموافقة المسبقة على دفع المبلغ. وبحسب المعطيات المتداولة، فإن عقد المصالحة ذهب إلى هيئة القضايا في وزارة العدل استناداً إلى المادة 66 من قانون البلديات الذي يُخضع المصالحات لموافقة هيئة القضايا في وزارة العدل في القضايا العالقة أمام المحاكم، ثم سلك مساراً مخالفاً للاصول القانونية المنصوص عليها في المادة 20 من تنظيم وزارة العدل التي تشير إلى أنه «لا يجوز للإدارات العامة التابعة للدولة إجراء المصالحات في الدعاوى العالقة أمام المحاكم، والتي يكون للدولة علاقة بها، إلا بعد موافقة رئيس هيئة القضايا ومدير عام وزارة العدل، وتعتبر باطلة كل مصالحة تعقد خلافاً لهذا النص»، إذ إن المصالحة لم تكن مقرونة بموافقة مدير عام وزارة العدل، ما زاد الريبة بالمسار الذي سلكته.
رغم كل هذا المسار، يؤكد رئيس ديوان المحاسبة، أحمد حمدان، الذي يرأس أيضاً الغرفة الأولى في الديوان، أنه لا شوائب تحيط بعقد المصالحة، وأنها قيد الموافقة بعدما تبيّن للديوان أن بلدية بيروت تنازلت عن الاستئناف، وبالتالي أصبح الحكم مبرماً، وأن القانون يتيح إجراء المصالحة من دون توقيع المدير العام لوزارة العدل. فالديوان لم يشكّ للحظة، مثله مثل بلدية بيروت، في السعر المقترح دفعه، على قاعدة أن العقارات في بيروت باهظة الثمن!