مثل «بوسيدون» (آلهة البحر عند الإغريق والرومان)، تتربّع قرية «فيترون» 35 كم شمال بيروت (قضاء كسروان) على عرشها الجبلي المرتفع 1250م عن سطح البحر. الوصول إليها لن يكون بداعي السياحة أبداً، فقد انتشر فريق مدير الإنتاج السوري زياد علي مثل «العسس» في المنطقة، حتى حصّلوا فيلا راقية تشبه بيت الأحلام لأيّ شاب متحمّس يطمح للثراء. هناك، دارت كاميرا المخرجة السورية رشا شربتجي لتصوير الخط اللبناني في المسلسل السوري «شوق» (كتابة حازم سليمان، وإنتاج «إيمار الشام» - باسم زيتون) من بطولة باسم ياخور، وسوزان نجم الدين، وزياد برجي، ونسرين طافش، ومنى واصف، وشكران مرتجى ووفاء موصللي وألكو داوود، ونهلا داوود.
سننبّه إلى أن الإرهاب سرطان مستشر ولا دين له (رشا شربتجي)
يحتاج الموعد إلى الكثير من التنسيق مع الفريق الذي يغرق في مستنقع أيّام التصوير الأولى، لحظات التأسيس لانطلاق العجلة على الطريق الصحيح. على إشارة «الصنائع»، سننتظر وقتاً يسيراً ليحنّ علينا سائق الفان الموكل بمهمّة نقلنا إلى موقع التصوير. لن نبدّد الوقت، سنتحيّن فرصة قربنا من مكتب شركة «سناب شوت» (إياد شهاب أحمد) ونأخذ قسطاً من الراحة هناك. نجم العمليات الفنية في الدراما السورية هو الصديق المقرّب لرشا شربتجي، يعرف بدقة إمكانياتها وهواجسها وتطلّعاتها الفنية. لقد أعادته بمسلسلها «سمرا» (كتابة كلوديا مرشيليان ــ 2016) رغم أنه كان قد طلّق الدراما نهائياً وقرّر أن يصنع وجهاً آخر للحقيقة، لا صورة تجميلية معقّمة ومتخلّفة عن ركب الواقع، فانصرف نحو الأفلام الوثائقية. يحكي شهاب عن تجربته مع رشا، مؤكداً أنّه لا يستطيع أن يشترك معها في هذا العمل، على اعتبار أن أغلب مراحل تصويره ستكون في دمشق، بينما يُقيم هو في بيروت بشكل قسري منذ زمن طويل. لن تطول الجلسة حتى تصل السيارة. بالتزامن مع غروب الشمس، ستأكل المسافة لتصل إلى مرتفعات جبال الشمال اللبنانية. لا بدّ لنا من رفع زجاج النافذة بعد لسعة برد خريفية، ثم تلمّس الفرق الشاسع بين طقس بيروت الذي يغصّ بالرطوبة ورائحة النفايات، وبين الرئة الشمالية المرتفعة بروحها الخصبة وأخضر يسيّجها دون أن يعرف لامتداده حدود، ثم إطلالة بهية على البحر من مكان مرتفع، ومزاج ينافسه بالعلو الشاهق! يزيد ألق الحالة صوت العتابا المنبعث من مسجّل السيارة «سكران خمران مالي على السكر واعي، خضت ببحور وتهت وأنا الواعي، آه يا زمان الترس يلي ما كنت لك واعي، روحي يا دنيا الفانية، مافي حدا لحدا، يا نظر عيني»، يقول المغني الشعبي، فيكتمل المشهد الساحر. لكن حالما ندخل الفيلا، يطالعنا إيحاء بمزاج سيئ وتوتّر ربما يعمّ الأجواء. السبب يعود إلى استياء الربّان من طاقم سفينته. تبدو مخرجة «غزلان في غابة الذئاب» مستاءة، تعطي تعليماتها مرّات متتالية، وتُعيد المشهد مُعترضة كل مرّة على تفصيل معيّن. هي تعمل مع ممثلات لبنانيات شابات ربما يحتجن إلى بال طويل. نسألها عن سبب التعب الواضح على وجهها، فتردّ بابتسامتها المعهودة سريعاً كاشفة عن وجهها الطيّب، إذ لم تعتد ابنة المخرج هشام شربتجي أن تكون إلا مثالاً للطافة، خاصة مع ضيوف اللوكيشن. نذكّرها بأنها لم تصوّر مسلسلاً إلا وقمنا بمواكبتها منذ أن كانت تفترش بكاميرتها أدرأ عشوائيات دمشق، إلى أن صارت تتقفّى أثر الفيلات الفخمة في لبنان. تضحك قبل أن تجيب بشامية ممزوجة بروح مصر البهية «يا مية أهلا وسهلا». تنتبه أن ّضجيجاً سيطر على المكان فجأة، فتلتفت معبّرة عن غضبها «إيه ده». يسود الصمت المكان، فتعود ابتسامتها سريعاً.
تشرح لنا مخرجة «الولادة من الخاصرة» أن خصوصية مشروعها تكمن في أنها «قرأت عشرات النصوص بمساعدة الدكتورة رانيا الجبان صديقتي المخلصة وشريكتي في هذا العمل، لكنني لم أقتنع بأيّ نصّ لأن أغلبها مجرد استنساخات من أشياء قدمتها سابقاً. أنتم تعرفون أنني السبّاقة إلى تقديم الجديد مهما تفاوتت نسبة النجاح في ما أقدّمه. أخيراً شعرت أنني أملك شوقاً لأنجز هذا النص الموجع، من دون أن يهوي نحو استجداء مجاني للعواطف، وبطريقة معافية من اللعب على وتر استثمار الأحداث لحياكة بكائيات عند عرض المسلسل». وعمّا يقدمه هذا العمل، تقول مخرجة «زمن العار»: «يحكي عن فقدان الحبّ والإحساس الذي يرافق أياً منّا عندما يفقد شخصاً محبّاً، فإنه يفقد جزءاً من إنسانيته. هكذا، فإنّ كل شخصيات العمل يحرّكها شوقها للمحبة والسلام والإنسانية، والحبّ بمفهومه العام والكبير. نقدّم في «شوق» قصتي حبّ تائهتين تبحثان عن بعضهما في دوامة الصراع الكبرى. هما قصّتان واقعيتان، نخلص فيهما إلى أنه عندما تتصارع الفيلة، فإن العشب يموت. ربما سنصل لنتيجة تقول كم أن النسيان نعمة، وكم يحتاج بعضنا فقدان ذاكرة حقيقياً في هذا الزمن الموجع. وبأسلوب يبتعد عن المباشرة والفجاجة، سننبّه إلى أن الإرهاب لا دين له فعلاً، بل هو سرطان مستشر علينا أن نتيّقظ له جيداً. وربما تكمن خصوصية النصّ في أنها المرة الأولى التي ينجح فيها كاتب شاب في صياغة بطولات نسائية رائعة». إذاً، العمل كان بمثابة فرصة لعودة شربتجي إلى الدراما السورية الخالصة وفق المفهوم النقدي؟ ترد مخرجتنا: «لا شكّ في أن شركة «إيمار الشام» لعبت الدور الأكبر في وجودي الآن في «شوق»، بالإضافة إلى إلحاح الصديقة رانيا الجبان، وشغلها لإيجاد فرصة مناسبة، ثم تذليل الصعوبات من الشركة وتحقيق المطالب والأخذ باليد ليكون عملنا عودة شيء مما فقدته الدراما السورية من ألق بعد الذي حقّقه «الندم» العام الماضي لحسن سامي يوسف والليث حجو».
أما عمّا يعنيه الكاتب المجرّب أو من يسبقه صيته بالنسبة إليها، فتقول «لا يعني لي هذا الموضوع أبداً، فأيّ نصّ مكتوب عليه أيّ اسم كان سيدفعني لقراءته و«الجواب يتّضح من عنوانه»، فسبع حلقات تكفي بأن نحكم. إذا استيقظت وذاكرتي مليئة بأسماء الشخصيات وأحداثها فهذا يعني أنه يتوجّب عليّ إكمال القراءة. أعتقد بأنّ «شوق» بداية حقيقية لحازم سليمان أتمنى أن يكلّلها النجاح».