يوحي الطريق بين مدينة حلب ونبل والزهراء بالدرب الشاق الذي قطعه الجيش السوري وحلفاؤه لفك الحصار عن البلدتين في شباط الماضي. ساحة حرب ودمار تمتد عبر قرى عدة قبل الوصول إلى بقعة مأهولة لم تعرف سوى الجارة عفرين رِئة صغيرة تضخ بعض مستلزمات الحياة. بعد أشهر من «الحرية»، يبدو الأمر لدى جزء كبير من أهالي البلدتين كأنّه ضريبة يدفعونها من يومياتهم و«صِيتهم». فاليوم، المسألة لم تنتهِ بممر آمن لهم يُرجعون عبره بعضاً من ظروف الحياة في حدّها الأدنى، في ظلّ حرب مسعورة وقذائف ما زالت تنهمر على رؤوسهم. طريق نبّل والزهراء أصبح معبراً لملايين الليرات المنقولة برعاية تجّار حرب مدعومين من جهات نافذة.القوافل التجارية والمركبات التي تنقل البضائع تُنافس السيارات المدنية على طريق أضحى خطّاً حيوياً يشكّل صلة وصل من إدلب إلى عفرين فحلب، وبين المناطق التي يسيطر عليها «داعش» في ريف حلب الشرقي فأعزاز ثم عفرين فحلب مروراً بالبلدتين. هذا الطريق تعبره القوافل المحمّلة بالمحروقات والمواد الغذائية، لتدخل أسواق مناطق نفوذ المسلحين، أو لتُباع في عفرين وريفها أو نحو البلدات الواقعة تحت سيطرة «الدولة الاسلامية».

تطوّر «الخط»

في البداية استحوذ أحد التشكيلات (غير المعروف بمشاركته الجدية في المعارك إلى جانب الجيش السوري) على «الخطّ» على نحو كامل. يبدو أنّ القيّمين عليه سريعو الفطنة في كيفية خلق المزيد من المداخيل. هذا التشكيل استطاع أن يجنّد شباناً من نبّل والزهراء لكي يتجنّب الدخول في صراع مع أهالي المنطقة.

رحلة «المليون» تبدأ بحاجز

في «علوم» التهريب التي أتقنتها جهات في سوريا، تحتاج أولاً إلى نقطة تفتيش بغطاء عسكري، ليستفيق الناس على حاجز سمّيَ «حاجز الترفيق» عند مدخل المدينة الصناعية (جنوب الزهراء) وآخر عند مفرق بلدة كفين (آخر قرية تسيطر عليها «الوحدات» الكردية قبل الوصول لماير ثم نبّل). وهذان الحاجزان «يضمنان» وصول القوافل نحو مناطق سيطرة المسلحين. في المقابل، تأتي القوافل من تركيا عبر قرى المسلحين لتعبر عبر هذه الحواجز مدعومة بـ«الترفيق» (من مرافقة) نحو مدينة حلب أو بقية المحافظات.
في مرحلة لاحقة دخل على الخط تجّار محسوبون على «لواء القدس» و«الدفاع الوطني» (وهذا لا يشمل كافة المنضوين في التنظيمين الموزعين على الجبهات في مهمات قتال حقيقية) وجماعات أخرى، ليزدهر التهريب في تلك المنطقة. ويسجّل الأهالي المراقبون لحركة السير تفوّق المحروقات والسكر والطحين ومواد غذائية أخرى كسلع «تُصدَّر» نحو القرى والبلدات خارج نفوذ الحكومة السورية.
«خط نبّل والزهراء» لم يشكّل فقط باباً لتجارة مربحة. جولة سريعة في الأسواق الحلبية وغيرها (حتى في اللاذقية) كافية لتبيان غزو البضائع التركية، خصوصاً في قطاعي المنسوجات والمأكولات.
«غزوة» يباركها تجار ينتظرون «قطيعهم» في عفرين بعد عبوره الحدود التركية نحو أعزاز. هناك يدخل المحميون من «الجهات النافذة» لتجرى «الحِسبة»، وبعدها تتحرك القوافل لتمر عبر «الحواجز» وتصل إلى الأسواق.
هؤلاء التجار لكل واحد منهم مهماته (وخلفه الجهة الداعمة)، والمنتَج الذي «يُتقن» فن تهريبه. فحتى الفراريج التركية لديها «مورّد» محتكر لا يتدخلّ في النسيج أو الغذاء أو المحروقات... التي لها أربابها.
وللإمعان في الاستفادة من «طريق الذهب»، ثُبّتت حواجز مخصصة للأتاوات من السيّارات المحملة بالبضاعة. هذه السيارات تدفع مبالغ مالية للقيّمين على الحاجز، حسب الحمولة ونوعها. كل جهة لها حاجز، ودخل أيضاً في «سوق الحواجز» أطراف جدد لا مكان لهم في لعبة القوافل الكبرى.
تأتي القوافل من تركيا لتعبر عبر الحواجز المدعومة بـ«الترفيق»

مُناقصة «حاجز»!

منذ فترة قصيرة، وضع «التشكيل» الأقدم في «اكتشاف» طريق الذهب حاجزاً على مدخل إحدى القرى في ريف حلب الشمالي. هذا الحاجز بعد استدراج العروض، اشتراه أحد التجار بمبلغ 30 مليون ليرة سورية (حوالى 56 ألف دولار أميركي) ليسمح بمرور بضاعته عبره، ثم ما لبث هذا التاجر أن باعه لآخر بمبلغ 65 مليون ليرة (122 ألف دولار) لمدة سنة.

«في آخرة»

جريح سابق قاتل إلى جانب الجيش السوري لا يملك سوى التحسّر على الواقع المستجدّ. الرجل الذي تعافى من إصابته متشائم إلى حدّ انتظار القصاص لهؤلاء «في الآخرة». يزعجه، كمعظم الناس هنا، الصيت السيّئ الذي استجلبه عدد صغير من أبناء نبل والزهراء لبلدتيهما، إذ كل ما يحدث يلصق بجميع الأهالي. وهذا ما يهدّد بعزلهما عن محيطهما بعد علاقات تاريخية مع قرى المنطقة.

إنارة الشهداء

المأساة التي تستفيق عليها البلدتان يومياً لا تحدّها حواجز التهريب. في نبل والزهراء لا ينير أعمدتها سوى صور الشهداء. أزمة الكهرباء خلقت تُجار مولدات يتحكمون في ساعات التغذية والأسعار. نبّل التي توزّع المياه على محيطها لا تشرب.
الفساد والمحسوبيات المنتشرة في المؤسسات الرسمية المعنية بالمنطقة انتقلت إلى البلدتين. هذه الفوضى جعلت مثلاً كل مؤسسة رسمية أو خدمية في البلدتين مضطرة إلى أن تكون مرتبطة بجهة ما تؤمن التمويل والدعم للمساعدة في تسيير شؤون الناس مقابل وجاهة أو طلبات مُقابلة. «أصبحنا متل حارة كل مين إيدو إلو»، يروي أحد شبّان نبّل. «فلان تابع للشيخ الفلاني وآخر لتنظيم أو لمجموعة» يضيف.
ثلاث سنوات ونصف سنة من الحصار اختصرت الموت والشقاء في تعبير واحد: نصمد أو نُفنى. معادلات عسكرية تظهرت وقوى إقليمية شاركت في مواجهة قوى أخرى، في فتح طريق الخلاص لمهدّدين يومياً بالقتل والسحل.
أُعدم شيطان الحصار... وُلِدت شياطين الطرقات.