سأل مذيع "سي إن إن" مراسلة القناة في ولاية أوهايو مستغرباً على الهواء: "مع تقدّم هيلاري كلينتون في الولايات الأخرى، لماذا قد تنتخب أوهايو دونالد ترامب؟"، يلخّص سؤال "سي إن إن" هذا أداء معظم الإعلام الأميركي في خلال الحملة الرئاسية، خصوصاً في الفترة الأخيرة، وقد اعتمد على مبدأ أن هيلاري كلينتون هي القاعدة (إذاً المنطق السَّوي يفرض انحياز الناخبين إليها) وترامب هو الاستثناء (إذاً السؤال عن سبب تصويت هذه الولاية أو تلك له هو سؤال مشروع).في خلال الأيام الماضية شنّ ترامب وفريقه هجوماً كلامياً على الإعلام الأميركي ووصفوه بالمنحاز إلى المنافسة عن الحزب الديموقراطي، واتهموه بتجاهل الفضائح الموثّقة التي طاولتها والتركيز فقط على فضائح "ملفّقة" ضده. بغضّ النظر عن مدى صحّة الاتهامات التي وُجّهت إلى ترامب ــ أبرزها أخيراً اتهامات بتحرّشات جنسية ــ لا بدّ من الاعتراف بأن غالبية الإعلام الأميركي المكتوب والمرئي منحاز بنحو كبير إلى كلينتون، إلى حدّ بات أداؤه أقرب إلى البروباغندا منه إلى تغطية حملة انتخابية.
أن تعلن بعض أبرز الصحف مثل "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" تأييدها لأحد المرشّحَين الرئاسيين في افتتاحيات مباشرة هو أمر مألوف في الإعلام الأميركي يحصل في كل موسم انتخابي، وقد رشّحتا كلينتون علناً لهذا الموسم، لكن المنفّر هذه المرة هو دخول معظم وسائل الإعلام في قلب حملة كلينتون كداعم دائم إلى حدّ أنها باتت جزءاً من فريق عمل المرشّحة!
تفضح بعض الأمثلة الانحياز الإعلامي الذي اعتَمد البروباغندا

بعض الأمثلة تفضح الانحياز الإعلامي الذي اعتَمد ــ وما زال ــ طريقة البروباغندا الكلاسيكية، أي إبراز عيوب الخصم والتركيز عليها وتجاهل سيئات الحليف.
خلال الأشهر الماضية مثلاً، تتالت الفضائح التي طاولت كلينتون كوزيرة خارجية سابقة وكمرشحة للرئاسة، رسائل بريدها الإلكتروني المسرّبة أظهرت، وفق "ويكيليكس"، تورّطها بتسليح مجموعات متطرفة في ليبيا وفي سوريا وبيّنت علم الوزيرة بأن حلفاء واشنطن "المملكة السعودية وقطر تدعمان داعش والجماعات المتطرفة الأخرى في المنطقة مالياً ولوجستياً"... إضافة إلى فضيحة إعلامية أظهرت خضوع صحافيين في وسائل إعلام بارزة (سي إن إن، سي إن بي سي، نيويورك تايمز، بوليتيكو، بوسطن غلوب...) لإرادة كلينتون وتلبية مطالب مدير حملتها جون بوديستا بتعديل المقالات وحذف بعض المقاطع بما يتناسب مع مصلحة المرشحة وتحسين صورتها، إضافة إلى إطلاع بوديستا على بعض الأسئلة الصحافية مسبقاً وتحذيره من بعض الصحافيين قبيل المناظرات والمؤتمرات... تلك الفضائح السياسية والإعلامية التي يمكن اعتبار بعضها اتهامات جنائية تُحال على المحاكم بحق مسؤولة في الإدارة، والتي كانت كل واحدة منها كفيلة بتدمير الحملة الانتخابية لأي مرشّح ونسف حظوظه بالنجاح، لم تلق الصدى المناسب في معظم وسائل الإعلام الأميركية.
بعض الأرقام والمشاهدات من مواقع ودراسات أميركية بيّنت ذلك: صحيفة "ذي هيل" (المتخصصة بأخبار الكونغرس والإدارة والبيت الأبيض) كشفت أن قضية اتهام ترامب باعتداءات جنسية خُصص لها أكثر من ٢٣ دقيقة على هواء الشبكات الإخبارية الأساسية ABC, NBC, CBS مجموعةً ليلة الخميس الماضي، بينما لم تستغرق أخبار فضائح تعاون الصحافيين مع مدير حملة كلينتون سوى دقيقة و٧ ثوانٍ على هواء الشبكات الثلاث مجموعة في الليلة نفسها. صحيفة "نيويورك تايمز" نشرت في اليوم نفسه ١١ خبراً سلبياً عن ترامپ ولم تتطرّق قطّ إلى تسريبات "ويكيليكس". استطلاع "واشنطن بوست - إي بي سي نيوز" عن شعبية المرشحَين طرح ٣٨ سؤالاً على عيّنة من الناخبين، ٦ أسئلة منها تناولت فضائح ترامپ الجنسية من دون أي سؤال عن فضائح كلينتون وفريقها.
وفي دراسة لموقع "داتا فايس" الأميركي، رصدت تغطية أبرز ثمانية مواقع إعلامية لحملتي كلينتون وترامب بين تموز ٢٠١٥ وأيلول ٢٠١٦، أظهرت النتائج انحيازاً واضحاً في تغطية ٦ وسائل إعلام لمصلحة كلينتون بينها "نيويورك تايمز" و"وول ستريت جورنال" و"واشنطن بوست" مقابل وسيلتين لمصلحة ترامب، إحداهما "فوكس نيوز".
منذ لحظة تكريسه رسمياً المنافس الوحيد بوجه كلينتون حتى المناظرة الأولى، انهالت الأقلام التي انتقدت ترامب سلبياً ومسخته بدءاً من طريقة نطقه وحركات جسده، وصولاً إلى مضمون كلامه. الصورة المشغولة ذاتها تكررت في الإعلام السائد: ترامب الرجل الهزلي الفاشل الذي لا يليق به منصب الرئاسة ولا العمل السياسي، وكلينتون المرأة العقلانية صاحبة الخبرة السياسية الطويلة. مقال ديفيد بروكس في "نيويورك تايمز" مثلاً بعنوان "حياة دونالد ترامب الحزين الوحيد" أمعن في التهكّم على المرشّح الجمهوري وعلى شخصيته، منطلقاً من تفصيل أن ترامب لم ينظر إلى سائليه وهو يجيبهم أثناء المناظرة! تفصيل سمح لبروكس بتشخيص وضع ترامب النفسي "طوال حياته" ونعته بـ"الوحيد، المعذَّب، المختلّ، الضعيف، الحقود، العدائي، الكاره للنساء، المثير للشفقة..."
قد لا يجب استغراب الأداء الهستيري ــ البروباغندي لمعظم الإعلام الأميركي "الوقح" كما وصفه البعض أخيراً، فهو الإعلام نفسه الذي أثبت في أكثر من مناسبة أنه "إعلام نظام" منحاز ومسيّس للعظام، مروّج لحروب و... مشارك فيها.