إيلينا فيرانتي... تلبس طاقية الإخفاء | تنتمي إيلينا فيرانتي إلى سلالة الحكواتية، أولئك الشيوخ الموقرون الذين يرتلون حكايات ومغامرات مشكوك فيها من ألف ليلة وليلة في الأسواق المراكشية. تعرفُ كيف تهيئ ضربة مؤثرة، وكيف تخبئ ورقة آس في كُمّها أفضل من السّحَرة الذين يُخرجون مناديل وأرانب. بعد أن تأتي على ذكر شخص عابر (ليس له أي علاقة بالموضوع)، تواصل حكايتها دون أن تعود إلى الحديث عنه، إلى أن تصل إلى منعطف مهم، باف! يظهر ذلك الشخص من جديد ولكن في لقطة قريبة الآن إذا صح قول ذلك، فيسيطر علينا الذهول، وندمن هذه اللعبة. حتى بتنا نقرأ الروايات كي نعرف كيف كُتبت، نقلّبها نفككها ونرتب القطع والأجزاء، نعزل فقرة جانباً، ندرسها وتأتي لحظة نستطيع فيها أن نقول: «آهـ، أجل، ما فعلَته هو أنها وضعت هذه الشخصية هنا ونقلت هذا الموقف إلى هناك لأنها تحتاج فيما بعد إلى...» لكن من حيث لا ندري، نسمح للسحر أن يستولي علينا، فلا نعود نكترث بالخدع والتقنية والمهنة.في زمن دونالد ترامب، الذي يضع اسمه على كلّ شيء: برج، كازينو، جامعة، لعبة لوحية، كولونيا... وفي عصر التغطية على مدار الساعة وصور «السيلفي» وتحديثات انستغرام والحرص على وضع لوغو على صورة غلاف بسكويت طاف على نهر البوسفور للتباهي والترويج للذات والمفاخرة بالمال ومظهر الشريك والقدرة الجنسية، تمت إزاحة التعاطي مع الأعمال الفنية لصالح النميمة على الفنانين والمشاهير. لكن أولئك الذين حافظوا على سرية هويتهم (باستثناء سارقي البنوك ولاعبي المصارعة في العروض المتلفزة) أجبرونا على إعادة التحديق في المنتج الإبداعي. ليس فقط بانكسي وهنري كارتييه - بروسون في بداياته، بل جي دي سالينجر وتوماس بينشون، وهاربر لي، وتيرانس ماليك وآخرين صمّوا آذانهم عن الضجيج، وفي بعض الحالات، حتى صورهم لم تكن متاحة.
i want to be alone. ما زلنا نتذكر هذه الجملة التي كررتها غريتا غاربو بتضرّع هذياني في فيلم
Grand Hotel، وبعدها أعلنت فيرانتي عن رغبتها ليس فقط في الخصوصية، وإنما في الإمّحاء تماماً خلف اسم مستعار: فـ «الكتب بعد أن تكتب، لا تعود بحاجة إلى مؤلفيها، والكتاب يجب أن يضم بين دفتيه كل أسباب الحياة المستقلة عن كاتبه وإلا فليس هنالك داع لنشره». لكن المطاردات لم تتوقف، كان أكثرها سريالية برنامج صنعه فريق من الرياضيّين والفيزيائيّين المنتمين إلى جامعة «لا سبيانزا» لتحليل رواياتها، وآخرها مقال مضجر في «نيويورك ريفيو أوف بوكس» طالعنا بداية هذا الشهر، يؤكد كاتبه، الصحافي الاستقصائي الإيطالي كلاوديو غاتي (كتب تحقيقات عن اللاجئين والمجموعات الإرهابيّة الإسلاميّة والبنوك!) أن إيلينا فيرانتي، اسم مستعار لآنيتا راجا التي تعمل مترجمة عن الألمانيّة وتتعامل مع دار النشر التي أصدرت كلّ كتاباتها (Edizioni e/o).
لم يتردد غاتي في مراجعة الوثائق المتعلّقة بالممتلكات العقاريّة لراجا وحسابات دار النشر، ليكشف (لنا نحن القراء؟) أنّها اقتنت بيتاً يتكوّن من سبع غرف في أحد أحياء روما الراقية وبيتاً ريفيّاً في توسكانا، كما اقتنى زوجها الكاتب دومينيكو ستارنوني بيتاً في واحد من أجمل أنهج مدينة روما بمساحة 230 متراً مربّعاً ويتكوّن من 11غرفة. وقد تصل قيمة البيت، وفق التقديرات، إلى مليوني يورو. وليس من باب المصادفة أن تتزامن هذه العمليات العقاريّة مع النجاح المالي الكبير لكتب فيرانتي/ راجا. هذه «النشرة الاقتصادية» التي يكتنفها جو خبيث، تمنعنا من النظر بعيداً. إننا ننظر إلى أقدامنا، ولا نفكِّر إلا في الخطوة الصغيرة التالية.
لنتخيل أن فيرانتي تسكن بجانب الحرفيين والتُجّار والعُمّال المهرة الذين تكتب عنهم بذهن شارد على طاولة حديقة معدنية بيضاء اللون، عليها عدد وافر من الأوراق المتكتلة في مجموعات كأنها فراشات ليلية بجانب نباتات النفل العملاقة وبعض قطع المرجان من بحر «إسكيا». أليس من الأفضل أنْ نرى أوراق اللعب التي تركتها بين أيدينا في «صديقتي المذهلة» و«قصة الاسم الجديد» و«أولئك الذين يغادرون وأولئك الذين يبقون» و«قصة الطفلة الضائعة»؟
تمتزج هذه الرباعية بظلال ما بعد الفاشية، حروب اليمين الإيطالي ضد اليسار، ومرحلة اغتيال ألدو مورو والألوية الحمراء في السبعينات. تصوغ فيرانتي لغتها الروائية من دون أن تبتعد قيد أنملة عن الصداقة التي تجمع بين فتاتين في نابولي، إيلينا غريكو ابنة بواب البلدية، وليلا شرولو ابنة الاسكافي. تلاحقهما جُمل كالبركار في علم الهندسة، تتبع دوائر، تارة حميمة، وطوراً واسعة وكرويّة، طرفها الحاد المُقحَم في أحياء نابولي الشعبية يشير إلى الخوف والغيرة والإهانة والفرص الضائعة والعنف الذي نضطر إلى ادّعائه لكي نعيش بسلام نسبي. يكفي أن تقرأ تلك الكلمات السوقية بالدارجة النابوليتانية حتى تُصاب بأعراض «توريت»، أو كائناً ما كان اسم ذلك الشيء الذي يجعلك تلوِّح بذراعيك بحركات عشوائية، لأن الكلمات التي أمامك هي ما لا تكتبه وما لا تصفه حتى لنفسك وما تُخفيه على أمل أنه، في يوم ما، قد يختفي.

انتقلت رواية إيلينا فيرانتي «صديقتي المذهلة» إلى المكتبة العربية أخيراً عن «دار الآداب» (ترجمة معاوية عبد المجيد)