قبل عشرة أعوام، لم يكن كثيرون يمتلكون اشتراك «إنترنت» في منازلهم ــ كما هي حالهم اليوم ــ وكان من يفعل يدفع الكثير. كانت الحال في المخيّم شبيهة بخارجه، لذلك كان «النت كافيه»، جزءاً لا يتجزأ من ماضينا، وإن خفت دوره كلياً مع انتشار «الكايبل» (أي الإنترنت الموزّع من شركةٍ خاصة) أو الـ01 (الإنترنت من الدولة).كان الإنترنت بطيئاً أيامها، وكانت المواقع قليلة، وكان معظمنا ينسج علاقاته مع الجميع عبر «الأم أس أن»، ذي الواجهة البيضاء الناصعة والشعار الأخضر، دون نسيان «الياهو ماسنجر» و«الأم آر أي سي».
كان محل الشوبكي عند مدخل المخيّم «التحتاني» شيئاً من ملتقى للجميع. كان المحل يجمع قوافل من الناس يدخلون جيئة وذهاباً. لا تكاد كراسي المحلّ تفرغ من متصفح حتى يأتي ثلاثة غيره. لم يكن الجميع يأتون للعب أو للتفرج على صورٍ جنسية ــ كما حال معظم الذكور في تلك المرحلة من العمر ــ بل يدخل كثيرون للتراسل مع جامعاتٍ غربية، أو التواصل مع أهلهم خارج لبنان، أو حتّى ببساطة محاولة الدخول على الإنترنت، رغبةً في اكتشاف ذلك العالم المدهش.
كانت الفتيات يحضرن إلى المكان كذلك، فيصير المكان أشبه بجامعٍ صغير. يصبح الجميع متدينين. فلا تخرج كلماتٌ نابية. صاحب المحلّ يراقب الجميع بعين فاحصة: إذا ما شعر بأن أحدهم «يتوسخن» (عبارة صدئة معناها أنه يتصرف بطريقة موحيةٍ جنسياً أو ما شابه) يطرده شر طردةً، هذا إذا لم يضربه «علقةً» ساخنة تنسيه «حليب» أمه.
كل هذا كان متكرراً معتاداً، حتى جاء عام 2006. يعرف الجميع في لبنان عدوان الصهاينة في ذلك العام. عند بداية الأمر، بدأ الصهاينة قصف كل شيءٍ بسرعةٍ كبيرة: جسور، مناطق، أحياء.
في اليوم التالي صباحاً بدأت وفود الناس الرحيل عن ضاحية بيروت الجنوبية. بدأ كثيرون الرحيل عن المخيم كذلك، فيما أصر آخرون على عدم الخروج من مخيمهم، رابطين الأمر بذكريات «تل الزعتر» ومجزرته، وحتى بالخروج الأوّل من فلسطين.
«أنا ما بطلع من المخيّم بالمرة، حتى لما تدفنوني حطوني حد أخوي محمد»، هكذا قال أحد متصفحي الإنترنت في العقد الرابع من العمر. كان أخوه محمد، الذي يكبره ببضع سنوات، قد دفن في مقبرة المخيّم إثر وفاته جراء حادث سيارة.
كنا نجلس جميعنا ننظر إلى التلفاز متسمرين. بعد ساعاتٍ، جابت سيارات لحزب الله شوارع الضاحية، وصارت تناشد الناس مغادرة منازلهم لأن الصهاينة سيقصفونها، ولكن دون أن تنسى إخبار أصحابها بأن بيوتهم أمانة في أعناق إخوانهم المجاهدين.
كانت هذه الرسالة تتكرر، وكنا ــ لأن المحل على أبواب المخيّم ــ قادرين على سماع المايكرفون على ظهر تلك السيارات. بعد ساعات من ذلك، بدأ القصف. كنا ــ الفلسطينيين ــ لا نعرف وصف شعورنا. معظمنا كان يعيش الحرب لأوّل مرة.
كنا مبتهجين بالأمر ببله شديد كنا. كنا نريد أن نرى الطائرة ونحلل ونعطي رأينا السياسي وتحليلنا العسكري. الأسوأ منا، بطبيعة الأحوال، كان أولئك الذين دخلوا الحرب قبلنا، أو شاركوا فيها مع التنظيمات من قبل. هؤلاء سوداويون وانهزاميون إلى أبعد الحدود. كانوا يقولون: «والله الإسرائيلي ليمحي الأخضر واليابس»، و«والله لنموت كلنا، لما يخلوا حجر على حجر».
كان أحدهم يسمع صوت الانفجارات القريبة فيبدأ إعطاء تحليلاته. كنا نصغي ونبدأ بالشجار ــ ولو كلاماً ــ مع صاحب النظرية. كنا نمتلئ بالعنفوان والغضب، وفي ذلك العمر لا يعرف المرء شيئاً كثيراً سوى التحدي والشجار بصوتٍ مرتفع.
بعد أيامٍ، صرنا أشبه بسكانٍ لهذا المكان الضيّق الصغير، لا نبارحه إلا لأوقاتٍ قليلة، لأنه لم يكن هناك تسليةٌ في مكانٍ آخر، وليس لدينا شيءٌ لنفعله سوى بعض الأمور الجنونية هنا وهناك. أحدنا خرج ورقص في منتصف الشارع أمام المخيّم حيث كانت الأرض جرداء كصحراء، راقبه شباب حزب الله من بعيد، اقتربوا منه، فولج إلى المخيّم، هم اقتربوا ونظروا ثم عادوا وابتعدوا.
مرة ثانيةً أصرّ أحدهم ــ ربما هو الشاب عينه ــ على أن يدخّن النرجيلة فوق سطح منزلهم المتاخم للطريق، رآه أحد شباب حزب الله مرةً أخرى، فطلبوا منه بكل أدب أن يلج إلى الداخل، أصروا عليه بالنزول، لكنه أصر بالبقاء، فتركوه. بعد أسبوعٍ استشهد هذا الشاب حينما أصرّ على الذهاب إلى حارة حريك ــ ولا أحد يعرف لماذا ــ فكانت طائرات الصهاينة له بالمرصاد.
خلال تلك المدّة، عشنا داخل محلّ الإنترنت. بتنا نعرف جميع الزوار. كلنا يعرف كلنا. صرنا نعرف مواقيت الناس. نعرف أن الحاجة منى تأتي عند الثالثة، وأبو أحمد عند الثانية عشرة، وسمر صباحاً، هكذا، كانت تلك الزيارات تجعلنا أحياءً دون أن نعرف.
بتنا أصدقاء دون اختيارنا، صرنا نحضر أشياء من منازلنا: شاياً، قهوةً، نسكافيه... الأشياء التي يبيعها المكان (كالشيبس والبزر والمشروبات الغازية) أخذت بالنضوب لأنه لا وسيلة لنقل الأشياء من المخيّم وإليه.
بتنا بعد مدةٍ نعرف ماذا سيحضر فلان أو فلانة. ننتظر بصبر فارغ قدوم سعاد مثلاً محضرةً معها سندويشات الدبس والطحينة، أو أبو عماد مع البوشار (رغم أنه كان يأكل معظمه وحده). كانت تلك عائلة المحلّ الذي كانت شبكة الإنترنت داخله تتعطل تارة وتجيء أخرى. ذلك كله لم يكن مهماً، المهم كان لنا أن نأتي ونجتمع ونتكلم ونتحدث. نأكل ثم نذهب إلى منازلنا في اليوم التالي كي ننام.
عند نهاية الشهر، ومرور أيامٍ ثلاثةٍ أخرى، انتهت الحرب. كان الدمار كثيراً، كان كل شيء خارج المخيّم مختلفاً. بدأت الحياة تعود إلى المكان بسرعةٍ بالغة مع سريان الهدنة. بدأ محل الإنترنت يفقد زواره الذين واظبوا على برنامجهم أياماً أخرى.
عاد الجميع إلى جامعته ومدرسته وعمله، لم يبق منا إلا العاطلون من العمل. حتى أولئك لم يعودوا يسكنون المكان كما كانت الحال إبان الحرب. وحدها الابتسامات الدافئة كلما مررت بجوار «سكان» المكان السابقين، كلما صادفتهم في شوارع المخيّم، تشعرك بأن ما كان يجمعنا كان أكثر من حقيقة: لقد كنا عائلة واحدة.