المتغيّرات التي تطرأ باستمرار على الوضع السوري تجعله في حلٍّ من كلّ المعايير التي كان يجري على أساسها تقويم المعطيات واتخاذها منطلقاً في التحليل والقراءة السياسية. فحين تُتخذ المواقف من هذا الطرف أو ذاك يكون ذلك بناءً على تقدير مفاده مدى ابتعاد هذا الطرف عن تصوّرنا لفكرة العدالة، التي لا يمكن من دونها اعتماد موقف ذي مصداقية أو الاتكال على منهجية معيّنة في التحليل تكون في الغالب منحازة لصاحب الحقّ. هذا التحديد كان صالحاً في مرحلة من المراحل، وتحديداً في المرحلة التي سبقت تدخّل القوى الدولية المباشر في المسألة السورية. حينها كانت الفاعلية السياسية لا تزال قائمة، وكانت القوى التي لا ترتبط عضوياً بالمعسكرين الروسي والأميركي لا تزال قادرة على التحرّك ولو في إطار رمزي وبما يخدم مصلحة الأكثرية، التي همّشها الصراع بين السلطة ومعارضيها المسلّحين، لكن ذلك لم يستمرّ طويلاً، فبعدما تهمّشت الأكثرية لمصلحة قوى الحرب تهمّش «ممثلوها» بدورهم وأصبح وجودهم مرتبطاً بسياق لا حضور فيه إلا للقوى التي تمثّل مصالح المتحاربين، وكونهم لا يمثلون هذه القوى ولا يعبرون عن مصالحها، فقد غدا حضورهم في «العملية السياسية» لزوم ما لا يلزم. هكذا، أصبح الموقف من الأزمة منفصلاً عن وضعية الأكثرية التي لم تعد ترى في أيٍّ من القوىّ الموجودة ممثلّاً لها، وهو ما جعل من «التمثيل السياسي» الذي يفترض به نظرياً التعبير عن مصالح السوريين حالةً غير واقعية، أو لنقل حالةً مرتبطة بمصالح لا تعبّر عن أكثرية السوريين الذين نزحوا إما إلى الخارج أو داخلياً.
آلية استخدام الموقف

حين يحصل ذلك تتغيّر طبيعة الموقف نفسه، فبدلاً من أن يكون تعبيراً عن «أكثرية» يحطّمها النظام أو يدمّر بيئاتها يصبح تعبيراً عن «أقلّية» بقيت في البلد بسبب عجزها عن المغادرة، وهذه الأقلية قد لا تكون شعبية بالضرورة، وإذا كانت كذلك فلا يكون التضامن معها مطلقاً وغير مشروط بل مرتبطاً بمدى التصاقها بالسلطة الجديدة التي تتعرّض مقارّها للقصف من طيران النظام. هذه هي الحال تقريباً في حلب منذ أكثر من سنتين، وهي المدينة التي تتعرّض باستمرار للقصف، وتشهد بسبب هذا التعرّض المستمرّ أكبر حملة للتضامن من جانب نشطاء ومعارضين في الخارج. في هذه الحملة وفي سواها لا يجري إيضاح الواقع الفعلي للقسم الشرقي من المدينة، الذي يخضع فعلياً لسيطرة قوىً لا تقلّ إجراماً عن السلطة بل يقتصر الأمر على إدانة القصف الجوي الذي تقوم به السلطة وحلفاؤها الروس. وغالباً ما تتزامن هذه الإدانة مع مساعي الولايات المتحدة وحلفائها لإيقاف الاندفاعة الروسية في معركة حلب، وهذا لا ينتقص من فاعلية الحملة ولكنه يضعها في إطار سياسي محدّد، بحيث يصبح كلُّ نشاطها مرتبطاً بهذا الإطار، وبالتالي تتجيّر مرجعيتها الأخلاقية -هذا إذا كانت تمثل مرجعية أساساً- لمصلحة طرف على حساب طرف آخر. ليس هذا فحسب، بل تغدو الحملة جزءاً من الصراع الروسي ـ الأميركي على تغليب سرديّة معينة للحرب في حلب، ما يعني أنّ المرجعية التي تنطلق منها لإدانة أعمال القتل ليست داخلية تماماً، ولا تعتمد بالضرورة على تأييد البيئة التي يجري تحطيمها بسلاحي الجوّ الروسي والسوري. ثمّة إنصاف هنا للمدنيين الذين يدفعون ثمن البقاء في حلب الشرقية ولكنه يُستخدم ذريعة لإضفاء الشرعية السياسية على وجود القوى التي تستنزف الجيش السوري وحلفاءه هناك، وهذا لا يخدم قضية المهمّشين في شرق حلب بقدر ما يفيد الاستراتيجية الأميركية التي لا يهمّها من كلّ هذه الجهود إلا استنزاف الروس ولجم اندفاعتهم الكبيرة داخل سوريا. والحال أنّ هذا الاستخدام قد أصبح متكرّراً، وهو يعبّر عن فقدان المعارضة السورية للمرجعية الداخلية، وعدم إدراكها لحجم التغيّر الذي طرأ على المشهد الداخلي، جاعلاً من معظم الأنشطة المرتبطة به جزءاً من الإستراتيجية الدولية لإدارة الصراع.

انعدام وجود داخل


هذا ينطبق على النظام بقدر ما ينطبق على المعارضة، فكلاهما الآن يتصرّف انطلاقاً من تبعيتهما لهذه القوّة الدولية أو تلك، وكلّ ما يفعلانه في سياق صراعهما إنما يصبّ في خدمة الإستراتيجية التي تديرها القوّتان الروسية والأميركية. لا يضيّق ذلك الهوامش أمام الناشطين فقط بل يجعل من أيّ عمل يزعم ارتباطه بالداخل أمراً إن لم يكن خارجياً تماماً فعلى الأقلّ مرتبطاً على نحو عضوي بهذه القوّة الدولية أو تلك. هو بهذا المعنى يفتقر إلى وجود داخل فعلي، والداخل الذي يعتقد انه يعمل عليه أو يدعم صموده ما هو إلا امتداد للدينامية الدولية التي يستحيل استمرارها من دون استتباع الداخل، أو تهميشه اذا أبدى مقاومةً كبيرة لهذا الاستتباع. حتى الكتلة الشعبية التي بقيت هنا - وهي كبيرة بالفعل - لا تقدر في ظلّ التهميش الذي تعرّضت له (من الجميع بالمناسبة) أن تضفي شرعية على نشاطات مماثلة، فوجودها لم يعد له وزن عملياً، وحين تحضر في مشاهد معينة لا يكون حضورها تعبيراً عن فاعلية سياسية بقدر ما يكون تثبيتاً لهيمنة هذا الطرف أو ذاك، وهي هيمنة مشروطة دائماً بالقبول الاجتماعي الذي يثبت شعبية أطراف السلطة وقدرتها على الاستقطاب.

خاتمة

ثمّة بالفعل سذاجة كبيرة لدى من يظنّ بإمكانية إحداث تأثير من خلال فعاليات خارجية إلى هذا الحدّ، فهي بالإضافة إلى انقطاعها عن المجتمع السوري الذي تهمّشت أكثريته الشعبية منذ زمن لا تبالي بنسب نشاطاتها إلى هذه القوّة الدولية أو تلك، وتظن أنها بتذاكيها ستقدر على تفادي الآثار التي يلحقها الاصطفاف إلى جانب معسكر دولي ضدّ آخر بما تبقى من المجتمع السوري. وعلى عكس ما يظنّ هؤلاء، التأثير يكون بالخروج من الاصطفافات الدولية، أو على الأقلّ عدم الانصياع لها تماماً في حال تعذُّر الخروج منها. صحيح أنّ شرط الفاعلية دائماً هو الانخراط في العملية السياسية، ولكن عندما تقوم هذه العملية على تحريك الداخل من خلال عمليات استتباع مستمرة تتغير المعادلة تماماً، ويصبح الشرط هو الخروج - رمزياً بسبب استحالة الخروج الفعلي - من المعركة التي تديرها الأطراف الدولية بأقلّ قدر ممكن من الخسائر.
* كاتب سوري