العلامات براهين عند أسامة العارف. هكذا تلقى الأحاديث على أنها أجزاء من الحقيقة، لا الحقيقة ذاتها. هكذا عرف ما وجب أن يفعل، ما وجب أن يُقال. هكذا أضحى كل ما قاله الآخرون، ما فعله الآخرون، حقيقةً إلى حين اكتشاف الحقيقة. هكذا، أضحى ما قاله ما فعله، لأنه اهتم بالإيحاء لا بالتنجيم. العلامات براهين عند الشاب الصغير بنظارتيه، بزجاج النظارتين الغامق، حيث وجد العالم من خلف الزجاج شبكة معقدة، بصيغ الماضي والحاضر. خلف النظارتين، عينان. وجدت العينان كل ما رأته كثمار التين. يقطف بعضها بخيزرانات القبضايات البيارتة، في حين يسقط البعض، من نضجه، على زخرفات الزمن. لم يتذكر الرجل الطويل الزمن، لأنه خاض صناعة الزمن باستمرار. فاتن بقوة رصد سيّالة كالأريج. كل حضور عطر، منذ «إضراب الحرامية» (1971). نص أول، أشبه بحديقة، تلمع أشجارها تحت نجوم لم تلبث في سماء الحديقة، كعشق لا كذكرى. دفع المحامي الشاب اللصوص إلى إعلان إضرابهم. مذ أعلنوا إضرابهم الشهير في بيروت الشهية، عند العارف، حضر الرجل كالمصير في كتابة النص المسرحي اللبناني. لم يتسلّق أسامة العارف الأشجار. لا ضرورة لهذا، بعدما انحنت أشجار الكتابة أمامه. لن يطلق ما هو خاطئ ولا ما هو غامض، بعدما عرف ما وجب أن يقول، ما وجب أن يفعل، إثر دفع الوالد، عارف العارف، ولده، إلى الانغراز بلوحته التاريخية. لوحة المرافعات تحت أقواس الأخذ والرد.
لم يقم أسامة العارف، بتأدية الدور المطلوب. وجد في تمنيات الوالد، حياةً قصيرة المدى... سعادة مؤقتة. ذلك أنّ المحامي، الضرير، إذ تَرك لولده المبصر، اسماً ومهنة وسمعة، تركه أمام ما يشبه المأساة المسرحية. رجل معلق على رغبات التناوب بين المسرح والترافع. لا قطع طريق على نقاش عند الأب، لأنه راهن على الحسّ المشترك بينه وبين الابن. غير أن ارتباك الابن زاد من قيمة الحياة في حياة أسامة. زاد من قيمة المسرح في حياة أسامة. زيادة، زادت بدورها، مخاطر التناوب بين الحياتين. لن يشفى من المسرح. لن يستقرئ حياته المادية، إلا بالعودة الكاملة إلى الحقوق. حقوق الناس لا حقوقه.
ما وجد الولد في الوصية، غير المكتوبة، وهماً ولا هباء. وجد أنها تضعه في الفراغ، لأن الحقوق حادّة وصارخة أمام بحر المسرح ورياحه. الحقوق توقد الأفواه، في حين يوقد المسرح بطء الحياة والذهن ضد الجهل في البلاد المراوحة بين الكبت والرقابات والمحرمات. لم ينتمِ إلى قوائم المهللين لأجهزة السلطة. وجد في ذلك تفاهة علانية. لم ينتمِ إلى قوائم الخاضعين لبروباغندا الازدهار، وآثار الازدهار عند حافات سنوات النار. ابن الفكر والعلم، وجد في الترافع لغة تعيره صوتها. استعارة صوت. صوت واحد. المسرح ثروته. ثروة مبصرة في عتم الأحياء الشعبية البيروتية. في المسرح أصوات، لا صوتاً واحداً.
بانت العناصر كثيرة في حياة أسامة العارف. هكذا كثرت الوظائف. لا علامة حسنة بالكامل. لا علامة سيئة بالكامل. عُلِّق على المكتوب والمرغوب. مكتوب الوالد ومرغوب الابن. خضع لمجتمع الأب، بعدما سبح عكس التيار. ثم خرج من العزلة، ذات التفارق الصعب، إلى واحدة من حلوله العجيبة. حلولٌ مدهشة. ترك أفعى المسرح تلدغه، حتى أضحى منيعاً أمام اللدغات. حصَّل المناعة من السم بالسم ذاته. بعدها، عمَّر نظامه الفريد بين المسرح والترافع، بدون أن يصبح أو يمسي شهيد العشق الأبدي. لم يعتبر الترافع وظيفة، بعدما اعتبر المسرح طاولة مستديرة. طاولة ولائم صغرى وكبرى. لا وظائف هنا وهناك. وسائط بلا عقائد. التفت إلى لغته، بعيداً من لغة الحزب الشيوعي اللبناني، بدون أن يوضع خارج التصنيف أو أن يعتبر مرتداً. أراد من العالم أن يسمعه. أدرك أن السماع فن ٌ واسع، لا تستطيع عقيدة أن تخضعه. لم يسخر ابن الحزب الشيوعي إلا من الأنظمة، مطالباً بإلحاح، بدون طلب، بكل الأشكال اللائقة بالتفهم لا بالعذر. لم ينتحر وهو يركض خلف إبراز الحق في لعبة تمرير وجودية، لا لعبة نرد، باقتراحات مطبوعة بالمتعة بعيداً من الإجابات النهائية. الحلقات هي الحل. كل رمية حل. تفكيك وتركيب على ضوء الغايات والحاجات. لم يشاجر الرجل عنصراً أو جماعة وهو يمتلك الحجج الجارحة، لأنه ما أراد أن ينتصر لنفسه، بل أن ينتصر للناس. هنا، ظهر كلاعب شطرنج هادئ، قادر على الرؤية خلف مربعات اللعبة. بلهجة منذرة لا نائحة. تدبر الرجل، معلم الزّن، السيطرة على الأدوات بتضحيات لا نهاية لها. لم يبق على حدود الأقوال، لأنه على هواه ووفقاً لاقتراحات الآخرين العامة، استمر مجادلاً، بدون ترف.
متفكر من دون مسبقات. صاحب منظومة أخلاقية في القانون ومنظومة لغوية في المسرح. نظَّم الحضور، بين الاثنين في سنوات عمره الأخيرة، ولو أنه لم يكتف بالرضى المتيسر، لا في القانون ولا في المسرح. ولا على صعيد علاقته بالآخر. محامي الفنانين والمثقفين، وافق عيشهم، بالدفاع عنهم بالمجان. بنوع من الزهد النادر، لم يستفد من قواه، في مجتمع الاستهلاك والتطبيع مع الضنى ولا تدنيس الظلال النضرة للأصدقاء، المراوحين بين المجزّأ والمشترك. لم يُحصّل ليرة واحدة، من فنان أو مثقف واجه خيبة وجودية. لم يفقد الكلام موضوعه، لا في المكتب ولا في المسرح لأن المكتب مكتب الإنسان. لأن المسرح مسرح الإنسان. الأصدقاء من تلك الكتيبة. ناس بين المنطق والمنطق بحضور أسامة. ناس بين التلطيف والاستمرار بغياب أسامة.
لم يستطع أسامة العارف الإقامة في هذا المأزق المزدوج، على صعيدي الكينونة والمعرفة. ترك أطروحة المسرح للمسرحيين، بعدما قدم واحداً من أبرز النصوص المسرحية بتجربة محترف مسرح بيروت. «إضراب الحرامية» (قدمها محترف بيروت للمسرح مع روجيه عساف ونضال الأشقر. ديكور بول غيراغوسيان). لعبة حياة. لن يذرع اللصوص الغرف، ذهاباً وإياباً، مرتبكين. مواقف مشحونة بالخفر الأبيض. المضمر في الكلام بالمسرحية من حالات الوعي الحادة، لا من عوارضها. استمتاع بنص في مسرح بلا حدود. لوحات متقنة ومنظمة. هذا أسلوب من سكنته نزعات التجمع. رؤية ما يقال، كما في السينما الصامتة. هذا أسلوب من تمرد على كل خدع الامتثال. مذاك، وفي المسرحيات العديدة، قدم العارف ما أسميه بالإبهار المنبه. أشياء يقظة تشد الانتباه، بتورط كامل في المواقف الصعبة. «بنسيون الست نعيمة» (1991) نموذج. «يا إسكندرية بحرك عجايب» (1995) نموذج آخر. «أيام بتسوى فرانكو» (2009) نموذج. نصوص غاية في الوضوح ينشده المشاهد بها. علاقته بالنص، نصه، علاقة زواج لا مساكنة. لا يحب الزيادة على النصوص ولا أن تقرأ ناقصة. لا يرغب بأن يرتجل أحدهم على نصه. لأن النص قائم على أسس عقلانية. يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر. إلا أن الارتجال لا يقيم علاقات التمايز بين الكاتب والممثل. شكسبيري النزعة هنا. لم يستطع العصر الجديد السماح باللعب بجمل المسرحي ذي الفلسفة الخاصة في الكتابة. تقديس النص، عنده، ليس ظاهرة. ضرورة. لن تؤدي الأداءات الخاطئة، إلا إلى القفز فوق المبادئ الأساسية. نسق النص، عمليات التراكم فيه، بنيته. يبوح بذلك بخجل لا بوجل. حين تصرفت ببعض المقاطع الطويلة في «بنسيون الست نعيمة» (مونولوغات)، وجد في ذلك غزواً. وجد في ذلك بداية انهيارات متلاحقة في النص، لأنّ اللعب بالنص ضغط على المضمر في النص. لم يرد الكاتب أن يثير ارتباكاً خفياً أو معلناً، من خلال بناء التفاوت بين المكتوب والملعوب، بعيداً من إصحاح التوفيق بين صاحب النص والقابض على النص بلسانه وجسده وروحه وقلبه.
كل مسرحية عند أسامة العارف عقل وحقيقة بأطراف علاقات لا تقيم علاقاتها إلا على الجوهر. هذا موقفه منذ «إضراب الحرامية» مع بول غيراغوسيان. إشارة ضرورية، لأن العمليات لا تسند إلا إلى شيوخ المهمات. ولأن مسرح أسامة العارف، مسرح تشكيل، بعمليات نشوئه الزمكانية. مسرحية رأيين. كثرة الوعي وقلة الحرية. انسحب العارف، بعدها بدون ضمان صحة التنقل من المسرح إلى القانون. انسحب وهو يقاوم مسبقاته ونزوعه إلى البديهيات، مسكوناً بأهداف وهواجس وضغوط اللحظة. إلا أنه، لمَّا قطع مع المسرح، لم يقطع مع المسرحيين. أهداهم صداقته ومواقفه الحكمية القانونية. لا وهم هنا ولا وهم هناك. غير أن عقله لم ينفك، يبارز كل موقف، دعاه للتخلص من المسرح، لأن عالم المحاماة، وحده، شكل نوعاً من الانقطاع الفريد بين حياتين. حياتان وسمتا أسامة العارف بطبائع قواه وإرادات قدراته الاشتراكية المنشأ. كرر جندي المسرح المجنون المحاولة ـ بعد سنوات ـ لنيل الأحسن. شهدت عودة العارف، حقيقة الأمور. لا صدف بعد. لا هلع حضور في طرق العيش فوق الهاوية.
قدم «إضراب الحرامية» أحد أبرز النصوص المسرحية مع روجيه عساف ونضال الأشقر، وديكور بول غيراغوسيان
تلذذ، ابتهج بالسعادة السماوية. سعادة الكتابة لشعب خاص. كتابة بلا تنازلات. كتابة تغيير. كتابة التحولات والتغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية. فيض من الاكتفاء. لم يعتبر نفسه في ضوء ذلك، مرسلاً، في «آه يا بطل». مسرحية تزف حضوره إلى تفجير المحفوظات الجديدة. نقدٌ لا شبيه له للمقاومة الوطنية بعينين منتشيتين بمصادر النِعم المرزومة بالكثير من الشهداء. ألم مواجه بالصنو. نص فكري، ما استطاع أن يعده لكي يسير في ركاب معجمه الجديد ــ قوته على المجادلة ـ بين رفاقه الماركسيين. نصحه هؤلاء، بعدم تنفيذه، لأنهم وجدوا في النص وقوفاً في وجه القطار العسكري. وبما أن أسامة العارف، ليس خوري مسرح ولا شيخ مسرح، تفهم مظاهر عدم الرضى من رفاق الدرب الطويل، لأن الفوز باعتراف الآخرين بأهدافهم الواعية، بقي بكيان العارف، الكائن الإنساني المنفتح على كل رأي وسيط بينه وبين نصوصه. ضَّب النص، حيث وجد أن ليس كل ما يطلبه الإنسان، سوف يجده في العالم. هنا، راح يزيد على محاولاته حجراً، حتى أنهى «بنسيون الست نعيمة». اختار للنص المخرج جلال خوري، كما اختاره لنص «آه يا بطل». عبر النص الأخير في مغيب يوم. غادر الدنيا. لأول مرة يهجر أسامة العارف نصاً. غادره بغير سهولة، وبسهولة من لا يخيفه التهاوي في صقيع البحث عن الكلمات، من جديد. نص جلي كالنار. النص الآخر، بعد النص الأول، صلبٌ، بعينين وحاجبين واضحين. أجرأ نصوصه «بنسيون الست نعيمة»، نص أسود ٌباهرٌ، مضى على أصابع الكتابة المحروقة بالكتابة، إلى عظم النخاع. فتل أسامة العارف، مفاتيح الصراع العربي الإسرائيلي في نصه الجديد. بيروتي يصَّيف في بولونيا، يقيم علاقة مع امرأة يهودية. لا تلبث الأخيرة أن تحبل منه. لن يعرف المداوم في العزاءات البيروتية بالأمر. لن يعرف الولد اليهودي، أنّ والده مسلم سني، من لبنان، إلا بعدما أخبرته أمه بذلك، وهي على فراش الموت.
كمن يرمح في حقل مليء بالنعاس، يجد البيروتي الجندي الإسرائيلي، على بابه، إثر دخوله إلى لبنان مع جيش الغزو الصهيوني عام ١٩٨٢. أراد أن يؤكد أنه جزء من ميثاق الوالد. يرفضه الوالد، حيث تنتهي المسرحية، على صورته يرفع على ابنه سكيناً، بهدف قتله، وأصوات مكبرات الصوت تصدح: «يا أهالي بيروت. جيش الدفاع الإسرائيلي راحلٌ غداً. لا تطلقوا النار عليه». لا شعر ينشده الطير هنا. هنا، لوالب التاريخ لا تقبع في الرواية، إلا حين يفتح أسامة العارف، أبواب أقفاصها، لكي تدور عجلاتها العضوية، في الهواء الطلق، بلغة لا توافق إلا صاحبها. لغة واقعية، بأجنحة، أشبه بالآذان الصغيرة. منظور تعذر الاقتراب منه، إلا مع أسامة العارف. لغته، لا تتعالى على حدود الهويات العربية، بوضوحها وبابتعادها الواضح عن الخلط بين الذبذبة السياسية والانتماء السياسي.
لغة العارف لغة جمالية، ترافع، لصالح كل ما هو مشهدي. مادة حية، وجد فيها الممثلون كل ما هو حركي. لا خيار، إلا التجريب المستمر عليها. يلائم العارف نصه، على الحرية لا الثبات. لم يحبس أحداً بالنمط المسبق، حين دفعهم إلى إظهار نزعاتهم المعيشية بوضوح، بوصفها مناسبة للممارسة المعاصرة. النص، هيكلٌ، مجهزٌ بالبنيات. نص العارف، جزء العمل الأول. جزء لا يتجزأ من العمل. علاقته بمحيطه، واضحة. عرضه الفكري واضحٌ. لا وجود في النص، للعزلة المشهورة، بين الشارع والمرسم، بين الشارع والمكتب، بين الشارع والمحترف. شرط العمل في كل مسرحيات العارف، شرط كوسموبوليتي. محسوس بيروت المستمر، منذ قيام بيروت على ما انبنت عليه. لن يبدع العارف، إلا من خلال البَّين بعقله. المسرحية الأخيرة عن الكتيبة الأممية في الحرب الأهلية الإسبانية. «يا إسكندرية...» أخرجها يعقوب الشدراوي، عن الإسكندرية الكوسموبوليتية. لورنس داريل وهنري كورييل وانطوان مارون (المؤسس الأول للحركة الشيوعية في مصر) وشخصيات كثيرة أخرى. وعد الإنكليز، الخائب، الشريف حسين، بالتعبير عن الهوية العربية في مشروع الوحدة العربية، الكاذب والمجهض. هذه طريقة أسامة العارف، لعبور الحدود. الحركة الشيوعية في مصر، الكتيبة الأممية في إسبانيا. لم يرهقه التعايش السلمي مع تاريخه في الحزب الشيوعي اللبناني. عالج المسألة هذه بالحوار بين ذاكرته وتبيان مرافق الاختلاف بينها وبين ما تقيد به بسنواته اللاحقة على الممارسات الحزبية. علم كلامه بالموضوع هذا، في «يا إسكندرية بحرك عجايب» و«أيام بتسوى فرانكو» (سلم إخراجها لبيتي توتل). حاجج ذاته في المسرحيتين. فهم أسامة العارف مقومات الكتابة المسرحية في وقت مبكّر من حياته. ترك الحياة في وقت مبكّر. هذه خسارة. أن تموت الكتابة في مرحلة صباها الخلاب. نصوص قليلة، لحقت فلسفة الخيبة، عبر جدلية البعد الفردي والبعد الجماعي للإنسان الواحد. لا شيء من التبسيط بذلك. لم يتعال العارف هنا. لم يسعَ، إلى تحقيق القيم المثلى في مسرحه، لأنه ما أراد تجاوز الوضع البشري، حين اندفع نحو تثبيت حقيقة الكائن البشري وإنسانيته وأصالته. ما يوجع أنه غاب، قبل أن يحقق مشروع إيقاظ الوعي عند الآخر، من خلال إيقاظ الوعي الذاتي، كوسيلة مناهضة للحرمات.