تنتج التفاعلات النووية كميات هائلة من الطاقة، سواء في عمليات الانشطار النووي أو في عملية الاندماج النووي. ورغم أننا نستطيع اليوم استعمال تفاعلات الانشطار النووي لأغراض مدنية أو عسكرية، إلا أن تفاعل الاندماج لا يزال، بعد عقود من الأبحاث، عصيّاً على الاستخدام المدني، مثل توليد الطاقة الكهربائية، ولم يتم تطويعه إلا في التطبيقات العسكرية.لذلك، يبذل العلماء اليوم، في الدول التي تمارس وتستثمر في البحث العلمي، جهوداً كبيرة للسيطرة على هذا التفاعل من أجل الوصول إلى إبطاء وتيرة اندفاع الطاقة الناتجة منه، كي يصبح استخدامها ممكناً في إنتاج الكهرباء. وبعد الكثير من المشاريع البحثية المغلقة في عدة دول، وجدت الوحدات البحثية أن تحقيق اختراق علمي في هذا المجال يحتاج إلى تعاون دولي واسع بين مختلف الأطراف، نظراً إلى الأكلاف المادية الضخمة المطلوبة والموارد البشرية والعلمية والتكنولوجية التي تتخطى قدرة كل دولة على حدة. لذلك دخلت الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية والهند في مشروع مشترك اسمه "المفاعل الاختباري النووي الحراري الدولي"، يجري بناؤه في جنوب فرنسا، وبلغت كلفة بنائه حوالى 14 مليار دولار حتى اليوم، وسوف تصل الكلفة إلى حوالى 22 مليار دولار عندما تبدأ الفرق البحثية عملها فيه عام 2020. وسوف يبلغ المفاعل ذروة نشاطه في اختبارات الاندماج النووي عام 2027.

إيران شريك جديد

بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني ودخول إيران نادي الدول المنتجة للطاقة النووية التقليدية، سرعان ما بادرت إيران إلى طلب الانضمام إلى مشروع المستقبل واستثمار طاقاتها البشرية والمادية فيه، لتصبح العضو الثامن بعد الأعضاء السبعة المؤسّسين. وسوف ينعكس دخول الهيئة الإيرانية للطاقة الذرية لاحقاً، سياسياً واقتصادياً وعلمياً، اذ من الطبيعي أن تكون الدول الشريكة في المشروع العلمي – الاختباري أول من سيستفيد من نجاحات التجربة، وستتمكن من تسخيرها لإنتاج الطاقة الرخيصة والنظيفة، وكذلك ستستفيد من كل الدروس العلمية المنتجة خلال سنوات المشروع. إضافة إلى هذه الدول، فقد دخلت كندا شريكة فيه ثم انسحبت منه، فيما تحاول كازاخستان إتمام مستلزمات الانضمام.

لمحة عن عمل المفاعل

تحتاج عملية اندماج النواة إلى طاقة هائلة تمكّنها من كسر القوة الطاردة (repulsive force) بين الشحنات الموجبة التي تتشكل منها نواة الهيدروجين، وهو ما يحتاج إلى درجة حرارة عالية تصل إلى مئة مليون درجة مئوية، أي ما يعادل درجة الحرارة الموجودة داخل النجوم. وعلى هذه الحرارة تتحول المادة إلى شكل جديد له خصائصه الفيزيائية، واسمه "بلازما". والتحدي الأساسي هو في إمكانية تجميع "البلازما" في مساحة معينة داخل المفاعل لوقت طويل على هذه الحرارة بواسطة حقول مغناطيسية قوية ومركزة، وهو ما يعتبر المهمة العلمية الأصعب. يحتاج إنتاج هذا الحقل المغناطيسي إلى حوالى 50 ألف أمبير من التيار الكهربائي، أي ما يكفي لتزويد 3300 منزل بالطاقة الكهربائية. يبلغ حجم المفاعل المسمى "توكاماك" حوالى 840 متراً مكعباً، أي ما يوازي حجم منزل مساحته 280 متراً مربعاً وارتفاعه 3 أمتار، وهو من أكبر المفاعلات في العالم. من المتوقع أن ينتج هذا المفاعل حوالى 500 ميغاواط من الطاقة، وأن يحافظ على استمرارية التفاعلات لمدة 16 دقيقة متواصلة في كل اختبار، وسوف يكون ذلك حدثاً علمياً غير مسبوق يفتح الباب أمام إمكانية تطوير مفاعلات تجارية مستدامة، وبقدرات إنتاجية مضاعفة تستفيد منها الدول الشريكة في المشروع. أما المهمة الصعبة الأخرى فهي مهمة تقنية وهندسية، وتكمن في كيفية حماية الجدران الداخلية للمفاعل من التآكل أمام النيوترونات المنطلقة بطاقة ضخمة من التفاعلات الاندماجية.
يحلم العالم بمستقبل ينتج طاقة رخيصة ومتجددة ونظيفة في آن واحد

طاقة كهربائية أم قنابل نووية؟

من المعروف أن التفاعلات النووية التي تؤدي إلى توليد الطاقة هي نفس التفاعلات التي تؤدي إلى التفجيرات النووية، مع فارق وحيد في سرعة حدوث التفاعل؛ فبدل أن تندفع كميات هائلة من الطاقة في وقت قصير جداً، كما في حالة القنبلة النووية، تندفع هذه الطاقة بوتيرة أبطأ وعلى مدى زمني أوسع قد يعادل سنوات، ما يسمح بتحويل هذه الطاقة إلى حرارة تسخن مياه المفاعلات وتطلق بخاراً شديد الضغط يؤدي إلى دوران المحركات التي تنتج الكهرباء.
المشكلة الآن أننا، رغم معرفتنا بكيفية إبطاء وتيرة تفاعلات الانشطار النووي، ما زلنا غير قادرين على تطبيق هذه الحلول على عمليات الاندماج، وبالتالي جلّ ما يمكن فعله هو توليد اندماجٍ نوويٍ سريع يسبب انفجاراً هائلاً يسمى القنبلة "الهيدروجينية"، التي تبلغ قوتها مئات أضعاف القنبلة النووية القائمة على عملية الانشطار، مثل تلك التي استخدمت في جرائم هيروشيما وناغازاكي، والتي تملكها اليوم دولٌ كثيرة.
لا يتخطّى عدد الدول القادرة اليوم على تصنيع القنبلة الهيدروجينية أصابع اليدين، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا، إلا أن عدد الدول التي يمكنها استخدام هذه الطاقة مدنياً يبلغ صفراً.

لماذا السعي وراء الاندماج النووي؟

عملية الاندماج هي عكس عملية الانشطار؛ فالانشطار يبدأ من نواة ذرية كبيرة تنقسم إلى نواتين صغيرتين أو أكثر، وتطلق معهما بضعة نيوترونات وكميات من الطاقة. أما الاندماج فيبدأ من نواتين صغيرتين تندمجان في إطار نواة أكبر وتطلقان أيضاً نيوترون أو أكثر وكميات من الطاقة. لذلك، وبما أن كلتا العمليتين تطلقان الطاقة، يمكن استخدام أي منهما للغاية نفسها. إلا أن مستلزمات هذين التفاعلين وكفاءة التفاعل والمواد الجانبية الناتجة منهما تختلفان بشكل جذري، ما يجعل من الاندماج النووي أكثر كفاءة وذا جدوى اقتصادية أعلى، وهو أقل ضرراً على الصعيد البيئي والإشعاعي.
أما الاندماج النووي القائم على العملية المعاكسة (صورة توضيحية مرفقة)، فيمكن الحصول عليه من خلال صهر نظائر متنوعة من الهيدروجين، مثل الديتيريوم أو التريتيوم ذات البروتون الواحد، ما يؤدي إلى إنتاج الهيليوم (بروتونين) مع كميات هائلة من الطاقة. أهمية هذه العملية أن المواد الناتجة منها هي مواد مستقرة غير مشعة مثل الهيليوم، وبالتالي هي عملية نظيفة توفر الكثير على البيئة والصحة وكذلك على أكلاف إدارة النفايات. كذلك تتوافر نظائر الهيدروجين بشكل كبير لأنها تستخرج من الماء، وتعتبر مصدراً متجدداً لا ينضب وذا كلفة منخفضة، وتستطيع جميع دول العالم الوصول إلى كميات كبيرة منه، خاصة تلك المطلة على البحار. لذلك يحلم العالم اليوم بمستقبل ينتج طاقة رخيصة ومتجددة ونظيفة في آن واحد، كما يحصل تحديداً في الشمس والنجوم. فكل الطاقة التي تنتجها الشمس هي في حقيقة الأمر نتاج عملية اندماج نووي متواصل يحول الهيدروجين إلى هيليوم ويغذي فضاءنا القريب بالطاقة. الحلم اليوم هو التمكن من تشغيل مفاعلات تحت السيطرة تفعل تماماً ما يحصل في قلب الشمس بوتيرة أبطأ .




النفايات النووية

تستخدم المفاعلات النووية القائمة اليوم، وكذلك القنابل الذرية التقليدية، نظائر اليورانيوم (92 بروتون في كل نواة) أو البلوتونيوم (95 بروتون في كل نواة) لتوليد الطاقة، فتنقسم نواة هذه الذرات مخلّفة وراءها أنواعاً عديدة جداً من المواد ذات النواة الأصغر، وهي مواد مشعة يستمر إشعاعها لسنوات أو قد يصل إلى ملايين السنين، ما يعني أن النفايات النووية الناتجة من هذه العملية هي نفايات "قذرة" تؤذي البيئة والإنسان، فتسبب أمراضاً سرطانية وتقتل الخلايا الحية وتضع على كاهل منتجيها عبء حفظها بشكل دقيق بعيداً عن مصادر المياه وعن الحياة البيولوجية. وغالباً ما يتم تخزين هذه النفايات النووية في مستوعبات من الرصاص على عمق مئات الأمتار تحت سطح الأرض. وهذا يعني أكلافاً مادية أيضاً على المنتجين. ورغم أن هذه العملية لا تنتج مواد كربونية، وبالتالي هي أفضل بيئياً من الطاقة المنتجة من مشتقات النفط والغاز لناحية تلوث الهواء، إلا أنها ذات مخاطر بيئية أخرى تشكل تحدياً كبيراً أمام الدول. كذلك فإن المواد الأولية المطلوبة، مثل اليورانيوم والبلوتونيوم، هي مصادر غير متجددة وغير مستدامة، وقد لا يكون في استطاعة كل دولة الحصول على الكميات المطلوبة منها.