حين انكسر الحلم العوني في 13 تشرين الأول 1990، قمعت دفعة واحدة مجموعة مشاعر، وخلت فجأة باحات قصر بعبدا وطرقات القصر وشرفات المنازل و"كونفوايات" الشوارع، فيما أحكم المنسحبون إغلاق الأبواب والنوافذ على أنفسهم. وطوال 15 عاماً، لم يترك الشباب والعماد ميشال عون وسيلة إلا استخدموها لإخراج أهلهم من اللامبالاة السياسية التي يعيشون فيها، لكن عبثاً. وحتى حين عاد الجنرال وزاروا الرابية، وحين كانوا يدلون بأصواتهم تأييداً له، إنما كانوا يفعلون ذلك ببرودة شديدة وكأن هوة كبيرة تفصلهم عن حماستهم السابقة. كانوا، باختصار شديد، عونيين بلا روح. لكن في اليومين الماضيين، حين تأكد أمر انتخاب الجنرال رئيساً للجمهورية، فتحت النوافذ والأبواب المغلقة، وأزاح كثيرون الحجر عن صدرهم: نعم، نحن عونيون وانتخاب عون رئيساً انتصار لنا.
كل ما يحكى عن حماسة شعبية ليس إلا نزراً يسيراً مما تعيشه بعض المؤسسات مثل المؤسسة العسكرية
الأمر هنا لا يتعلق طبعاً بالسليمانيين ــ اللحوديين ــ الهراويين الذين يقنعون كل عهد بأنهم رجالاته، إنما بمواطنين عاديين لا يبالون بفتات السلطة من قريب أو بعيد. لكن عون نجح بلحظة في تكوين إيمانهم بالبلد، وحين كُسر عون فقدوا الأمل. والآن هم يعلمون أن انتخاب عون رئيساً بكل استحالاته أسهل من زج موظف فاسد واحد في السجن ولن تحل أزمة الكهرباء غداً أو يصبح بإمكان أبنائهم شراء شقة سكنية. لكن وجود رئيس يتمتع بالكرامة أمر يستحق الاحتفال بحد ذاته. كل ما يشاع في الصالونات السياسية والصحافة وغيرها عن تسويات سياسية وتنازلات متبادلة لا يعني هؤلاء من قريب أو بعيد. ما يعنيهم هو عودة عون إلى بعبدا. وأياً كان ما يدعيه فريد مكاري وهادي حبيش وعاطف مجدلاني ونبيل دو فريج وسيرج طورسركيسيان، لن يتغير اقتناع هؤلاء بأن سمير جعجع وفؤاد السنيورة ونبيه بري يعرفون ميشال عون جيداً، وهذا بالطبع أسوأ كوابيسهم. ولا شك في هذا السياق أن موقف الرئيس نبيه بري عزّز الحماسة الشعبية. فالرأي العام يعلم أنه سيكون رئيساً غصباً عنهم جميعاً. ورئيساً يمكن أن يسمع ويناقش ويصبر ويأخذ ويعطي، لكنه في الوقت نفسه رجل عنيد متمرد بطبعه لا يمكن التذاكي عليه أو القفز فوقه. ولا شك في هذا السياق أن من لا يحبون عون دون تحزب لغيره يبالغون في سلبيتهم تجاهه. فعلى الصعيد الحزبي التنظيمي، هناك الكثير من الملاحظات السلبية طبعاً. لكنه حزب يجري انتخابات مناطقية وقطاعية كاملة، ويضع تقويماً انتخابياً لمرشحيه إلى الانتخابات النيابية وغيرها. وعلى الصعيد الوزاري؛ وزّر عون صهره نعم. لكنه بحث عن أحد أكثر المحامين كفاءة حين أسندت إليه وزارة العدل فأعطاها لنقيب المحامين السابق شكيب قرطباوي لا لأحد أزلامه أو حتى أحد الحزبيين لمجرد أنه حزبي. وبمعزل عن تقويم التجربة الوزارية بحد ذاتها ونجاح الوزير أو فشله، حين اختار عون فادي عبود وزيراً كان يعتقد أنه سيحصل على وزارة الصناعة فاختار رئيس جمعية الصناعيين، رغم أنه غير منتسب إلى التيار الوطني الحر. وحين أسندت إليه وزارة التربية، اختار الياس بوصعب باعتباره صاحب تجربتين ناجحتين، سواء في إدارة الجامعة الأميركية في دبي أو في رئاسة بلدية ضهور الشوير، رغم أن بوصعب أيضاً لم يكن منتمياً إلى التيار أو متملقاً لعون أو غيره. وقبل ذلك بكثير حين اختلى عون بنفسه لاختيار مرشحيه إلى الانتخابات النيابية عام 2005، عمد إلى اختيار الأطباء النافذين خدماتياً في مناطقهم مطعماً لوائحه بملتزم واحد في التيار في كل قضاء. وفي الانتخابات البلدية الأخيرة، لم تسأل الرابية أخيراً أي مرشح هو الحزبيّ إنما سألت عن الأفضل لبلدته دوماً والأقوى شعبياً. وهو أمر مزعج بالنسبة إلى الحزبيين الذي يعتقدون بأن البطاقة الحزبية تعوضهم نقص الكفاءة أو الحماسة أو التجربة العملية، لكنه أمر مفيد حين يتعلق الأمر برئاسة الجمهورية.
عون في بعبدا أمر لم يكن البتة في الحسبان، وما سيحصل اليوم عند الظهيرة ليس مدبراً أو منسقاً مسبقاً أو مفتعلاً. فهروع من لا يتجاوز أجره الشهري خمسمئة دولار لشراء مفرقعات بألف دولار، والسيارات التي لم تنم منذ ثلاثة أيام، وهذا الارتياح العارم يشي بأن الحجر الثقيل قد أزيح أخيراً عن الصدور، وكل ما يحكى عن حماسة شعبية في بعض الأوساط ليس إلا نزراً يسيراً مما تعيشه بعض المؤسسات مثل المؤسسة العسكرية.