"ان البورجوازية الصناعية والتجارية لا تستطيع على نحو عام الاستمرار على نحو مستقل عن شريحة غير بورجوازية"
جوزيف شومبيتر


إن المشككين في أن الانتخابات الرئاسية في لبنان كانت بالفعل لبنانية المنشأ تبين خطأ شكهم خلال متابعتهم لهفوات العملية الانتخابية، إذ تبين بالفعل انها "صنع في لبنان"، كما قال الدكتور سمير جعجع. لو وضعنا نوادر الجلسة جانبا، ففي عالم السياسة، وبسبب ندرتها، تحتل هذه العلامة "التجارية" مرتبة متدنية جدا عل الاقل من نواحي الاستمرارية وسلامة المستهلك. فما يحصل في الجلسة النيابية او قبلها من تحالفات وتفاهمات بين القوى والشخصيات اللبنانية قد لا يستمر كثيرا، وهو لا يضمن بالضرورة لا السلم الاهلي ولا الازدهار للبنانيين. وخير مثال على ذلك اخر صناعة لبنانية رئاسية عام 1970.
التسوية بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل لمنع النظام من التحلل والانهيار

في هذا الاطار، لا بد ان يكون هناك أسباب اعمق لهذا التحول المفاجئ في المواقف، وابعد من الاسباب التي سيقت والطويلة الامد الواعدة بالازدهار والسلم الاهلي، التي بالتأكيد لم تكن على بال من اتفقوا اخيرا، وهي ايضا ابعد من المصالح والمطامح الشخصية لشخصين، وان كانت بالتأكيد على بالهما عندما اتفقا. يقول احد السوسيولوجيين العالميين ان هناك ثلاثة شروط لسقوط اي نظام حكم. اولا، ازمة مالية للدولة. ثانيا، خلافات عميقة بين اجنحة الحكم والسلطة. واخيرا، قيام حركة راديكالية من خارج النظام.
في الامر الاول يعاني لبنان ليس فقط ازمة مالية، بل ازمة اقتصادية عميقة طاولت العمال والموظفين لفترة طويلة. ان المحصلة الاقتصادية منذ 1992 حتى الان كانت: حدوث تفاوت كبير في الدخل والثروة، طغيان القطاعات المتدنية الانتاجية والانشطة الريعية وغياب التقدم التكنولوجي والابتكار، تفاوت كبير بين المداخيل الناتجة من العمل وكلفة المعيشة، عدم مقدرة الاقتصاد على خلق الوظائف ما انتج بطالة وهجرة وخصوصا بطالة مرتفعة بين الشباب، قيام اقتصاد مزدوج (داخلي-خارجي) واخيرا انهيار البنى التحتية ووظائف الدولة الاساسية.
كل هذه الامور قد لا تهم الراسمال المسيطر، ولكن الازمة بدأت تطاول اجنحة الراسمال على انواعه الصناعية والتجارية والعقارية والمالية، وهنا كان ناقوس الخطر الذي دق وجعل "الهيئات الاقتصادية"، او ما قد يسميها البعض "اللجنة التنفيذية للبورجوازية اللبنانية" تتحرك وحتى تهدد بالاضراب. فهذا الرأسمال لا يستطيع ان يسمح للقوى الطائفية بالتمادي في صراعاتها لان التناقض يكمن في مالية الدولة بين كونها كانت مصدرا لتراكم راس مال المصارف، ومصدرا مهما لارباحها وارباح حاملي السندات الان، وكونها مصدرا دائما لتهديده إن بالانهيار الكامل لهذه البنية الجهنمية التي بنيت بعد الحرب، وان بالتهديد بوصول البلد الى الاقتناع بالحاجة الى وضع الضرائب على الثروة والمداخيل العالية وعوائد رأس المال ليس لتحقيق عدالة ما، بل انقاذا لمالية الدولة.
في الامر الثالث، رأى اركان الحكم، السنة الماضية وهذه السنة، ما يمكن ان تحدثه قوى من خارج النظام من تهديد اذا تحركت من خارجه او حتى اذا تحركت عبر الاطر الدستورية. لذلك كانت التسوية بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل لمنع النظام من التحلل والانهيار بمباركة من الراسمال، الذي يريد بدوره ان يحل ازمته. وهنا وجدت ازمة النظام المزدوجة: ازمة نظام الطائف وازمة الراسمالية اللبنانية تجسيدا لها من خلال هذه التسوية. وبالتالي فإن هذه المحاولة لحل هاتين الازمتين تؤكد ان الصراع مع الطائفية ليس صراع افكار كما ان النظام الطائفي ليس كيان مطلق. بل ان الصراع مادي ومع القوى السياسية المكونة له. فليس هناك من شيء اسمه "اسقاط النظام الطائفي" بل المطلوب اخراج القوى الطائفية من السلطة والحلول محلها وهذه مهمة المعارضة في المرحلة المقبلة.
قلت مرة في حديث مع "صوت الشعب" في معرض نقاش تقرير البنك الدولي حول لبنان ان هناك قوتين سياسيتين في لبنان يمكن ان تُحدثا تحولاً في الحياة السياسية اللبنانية، اذا عادتا الى أصولهما العلمانية، وهما التيار الوطني الحر والحزب التقدمي الاشتراكي، وبالنسبة للاخير ايضا العودة الى اشتراكيته. حتى الان لا يبدو ان ذلك حاصل قريباً، وبالنسبة للتيار فإنه يغرق اكثر فأكثر في الرمال المتحركة لخطابه الطائفي وتحالفه مع الرأسمال الذي توسع الان، كما في خطابه العدائي ضد اللاجئين. وبالتالي فإن اي تفكير بحدوث ذلك بالفعل هو تفكير تفاؤلي مفرط او كما يقول الاميركيون (wishful thinking) وهو كذلك لان مصالح كبرى تتحكم الان في مسارات التحول وتجعل من هذا التحول غير قابل للعكس (irreversible) مثله مثل الزمن الذي لا يعود الى الوراء.
في هذا الاطار، فإن الاحتمالات مفتوحة على امور اخرى وخصوصا ان حل الازمة المزدوجة ليس بالسهل بمكان، فدونه صراعات قد تنشأ في اي لحظة وكل جناح في التحالف- الازمة يرى في الاخر قوة مادية لحل ازمته الذاتية، وفي بعض الامور خصوصا المالية والاقتصادية، هناك شبه استحالة لحلها ضمن العوامل المتغيرة (parameters) للنظام الاقتصادي والمالي الحالي، لكن على الرغم من ذلك فإننا نرى لبنان تحاصره اليوم القوى الطائفية ولا كسر لذلك الا بكسر ذلك الطوق الذي ظاهره ديمقراطي وباطنه تحاصصي ورجعي حتى لا تكون هذه البداية الجديدة لتحالف جديد، بداية نهاية الامل بالدولة العلمانية العصرية والمتقدمة؛ دولة تبني وطنا لأبنائه جميعا، لا للبعض الذين يمعنون في المضي بتسييره نحو التراجع سياسيا واقتصاديا، حتى لو بدت الامور في ظاهرها في اليومين الاخيرين غير ذلك.