مُنحت جائزة «غونكور» الفرنسية، ظهر أمس، للروائية المغربية ليلى سليماني (1981)، عن إصدارها الثاني «أغنية رقيقة» (منشورات «غاليمار»). بذلك تكون صاحبة «في حديقة الغول» رابع امرأة تحرز هذه الجائزة الفرنسية المرموقة، خلال ربع قرن، وثالث مؤلف عربي ينالها بعد الطاهر بن جلون («الليلة المقدسة» ـ 1987) وأمين معلوف («صخرة طانيوس» ـ 1993). حين حطت الرحال في باريس، عام ١٩٩٩، وهي في سن الثامنة عشرة، كانت ليلى سليماني تتطلع إلى دراسة العلوم السياسية. لكنها سرعان ما هجرت المعهد الفرنسي للعلوم السياسية، بالرغم من أنّ اقتحام هذه المؤسسة المرموقة لم يكن بالأمر الهين بالنسبة الى شابة مثلها قادمة من الضفة الأخرى للمتوسط. بعد ذلك، قررت أن تغيّر الوجهة جذرياً، لتلتحق بمعهد «فلوران» الباريسي لتدريب الممثلين. لكن بعد بدايات واعدة على خشبة المسرح، عادت وغيّرت الوجهة ثانية، نحو الصحافة. بعد دبلوم في الإعلام حصلت عليه من المعهد العالي للتجارة سنة 2008، التحقت بمجلة «جون افريك» كمحررة متخصصة في الشؤون المغاربية. ولفتت الأنظار بالأخص بكتاباتها وتحقيقاتها ذات النبرة النسائية.
ثم جاء الأدب كنقلة ثالثة في حياتها، بعد التمثيل والصحافة. باكورتها الروائية «في حديقة الغول» (منشورات «غاليمار» – 2014) كان لها وقع القنبلة في الأوساط الثقافية الفرنسية. لم يكن مرد ذلك فقط الى مضمونها الجريء، الذي طرق تابو الإدمان الجنسي المرضي، بل أيضاً ــ وأساساً ــ إلى سماتها الأسلوبية وبنيتها السردية ذات المنحى النفسي المتقن، الذي استطاع أن يشد أنفاس أكثر من 80 ألف قارئ فرنسي أولعوا ببطلتها القلقة والمعذبة «أديل»، حتى إن صحيفة «ليبراسيون» قارنتها بـ«مدام بوفاري»!
أوجه المقارنة مع رائعة فلوبير كانت بالفعل متعددة. على غرار صاحب «التربية العاطفية» الذي كان يقول: «مدام بوفاري هي أنا»، كان بإمكان ليلى سليماني أن تقول: DSK هو أنا! فالروائية المغربية استوحت موضوع «في حديقة الغول» من الفضيحة الجنسية التي أودت برئيس صندوق النقد الدولي، دومينيك شتروس ــ كان. لكنها اختارت مقاربة مغايرة، ذات نفس نسائي، جعلتها تحوّل الوحش الجنسي من ذكر إلى أنثى! من منطلق أن كون مدمنة الجنس امرأة سيسهّل حتماً على أصحاب العقليات الذكورية استيعاب مدى بشاعة هذا الوحش النفسي الكاسر الذي ينخر صاحبه من الداخل، بالقدر نفسه من القسوة التي يدمر بها الآخرين.
أضف الى ذلك أن ليلى سليماني، على غرار أي مؤلف يكتب عمله الروائي الأول، زرعت في «في حديقة الغول» كثيراً من تفاصيل طفولتها وحياتها المعيشة، ما جعل «الالتباس البوفاري» مضاعفاً: بينها وبين بطلتها «أديل» (كلتاهما صحافية حسناء، عازبة، تعيش في باريس)، ثم بين هذه الأخيرة ودومينيك شتروس ــ كان، بخصوص إدمان الجنس المرضي!
على المنوال الصادم ذاته، وبالقدر نفسه من روح الابتكار والمغايرة، عادت سليماني لتضرب من جديد في روايتها الثانية «أغنية رقيقة». ضربة معلم (ة) خوّلتها افتكاك الـ«غونكور». منذ الفقرة الأولى، تكشف الرواية كل أسرار حبكتها التراجيدية المستوحاة من حادثة فعلية جرت وقائعها في الولايات المتحدة: «خادمة بيضاء» (لويز) تقوم بقتل الطفلين (ميلا وآدم) اللذين كانت تتولى رعايتهما، ثم تحاول الانتحار. لكنها تفشل في «منح نفسها الموت الذي أتقنت كيف تمنحه للغير، وتجد نفسها في العناية الفائقة، بعدما قطعت شرايين معصميها وغرزت سكيناً حادة في عنقها».
هكذا، من خلال هذا الكسر العمدي والمبكر للحبكة الظاهرية للقصة، تراوغ الكتابة قارئها لتستدرجه نحو إشكالية نفسية، تحتل تدريجاً موقعاً مركزياً في الرواية. وهي عقدة الذنب التي تتولد لدى والدَي الطفلين القتيلين (ميريام وبول): كيف لم ينتبها الى الجانب المظلم في شخصية الخادمة؟ ولماذا فشلا في التنبؤ بأنها يمكن أن تقدم على جريمة بمثل تلك الدموية؟
شيئاً فشيئاً، يسترجع الوالدان قرائن وتفاصيل تبدو لهما، بأثر رجعي، مثيرة للقلق (تقول الأم، مثلاً: كانت لويز تشد شعر ميلا الى الخلف، عندما تربطه، بقدر من العنف كان يجعل عينيها تستطيلان جانبياً، فتبدو كأنها طفلة صينية!). لكن كل تلك الوقائع (الفعلية أو المفترضة؟) التي يسترجعها الوالدان ويسعيان، من خلالها، لإيجاد تفسير عصابي لفعلتها الشنيعة، لا تلبث أن تتساقط، لتتكشف الدوافع الفعلية للجريمة، والناجمة عن شكل بوست ــ حداثي من «الصراع الطبقي» بين الوالدين الميسورين اللذين لا ينتبهان ــ بالرغم مما يحملانه من أفكار يسارية ــ الى معاناة خادمتهما المسحوقة، ولا يفطنان الى ما راكمته من حقد وغضب إلا بعد فوات الأوان!