"حرب أوباما على المسرّبين"، هكذا سمّاها الناشطون في مجال نشر المعلومات السرّية لكشف الحقائق ومطلقي الإنذارات بشأنها، إذ إن عهد الرئيس باراك أوباما كان الأعنف تجاههم. ثمانية أحكام وفق قانون التجسس صدرت بحق مسرّبين خلال عهد أوباما، أي "أكثر من كل عهود الرؤساء السابقين مجتمعين". مسرّبون كبرادلي مانينغ (مسرِّب برقيات وزارة الخارجية الأميركية) يقضي حكماً بـ ٣٥ سنة سجنا في زنزانة انفرادية، مؤسس موقع "ويكيليكس" جوليان أسانج قابع في سفارة الإكوادور في لندن مطلوب قضائياً وتستخدم واشنطن طرقاً عديدة للتضييق على حريته وشلّ نشاطه، إدوارد سنودن (مسرّب وثائق وكالة الأمن القومي) متهم بثلاث تهم قد تصل عقوبتها إلى ٣٠ سنة سجنا، وهو لاجئ مؤقت في روسيا، وسيواجه مصير زملائه اذا قرر العودة الى بلاده. هؤلاء وغيرهم حاكمتهم واشنطن وسُجن بعضهم بتهمة التجسس ليسجل عهد أوباما أكبر عدد محاكمات بتلك التهمة، منذ اعتماد الولايات المتحدة قانون التجسس عام ١٩١٧. فتحت تسريبات سنودن عن تجاوزات "وكالة الأمن القومي" في عملها نقاشاً داخلياً رسمياً، ومكّنت تلك التسريبات وغيرها بعض المسؤولين والرأي العام من الاطلاع على حقائق سياسية وأمنية بارزة، كان آخرها عن دور هيلاري كلينتون بتسليح جماعات متطرفة في ليبيا، ثم في سوريا، ومساهمة السعودية وقطر في ذلك أيضاً، إضافة إلى فضائح التجسس الأميركي على هواتف رؤساء بعض الدول وعلى هواتف المواطنين الأميركيين وأجهزة الكومبيوتر الخاصة بهم... كما أتاحت لدافعي الضرائب فرصة معرفة حقائق عن مسؤوليهم تمسّ حرياتهم المصونة في الدستور، لكن كل ذلك لم يشفع لمَن تجرّأوا على إخراج تلك الحقائق الى النور. لم يقف القضاء ولا الكونغرس ولا البيت الأبيض ولا غالبية الإعلام السائد وقفة حقّ معهم، فاتُّهم معظم المسرّبين بـ"الخيانة" و"سرقة ممتلكات الدولة" وحوكموا بجرم "نشر أسرار قومية تعرّض أمن الولايات المتحدة للخطر"، من دون أي دليل يثبت صحة هذا الاتهام.
أرست إجراءات إدارة باراك أوباما جوّا من الرعب على المسربين

"هكذا يكون أوباما قد فتح الباب أمام مَن سيأتي بعده لاعتماد الإجراءات القمعية ذاتها، أو حتى توسيعها وتشديدها تجاه المسرّبين الذين يعملون للمصلحة العامة"، يقول بعض الناشطين.
لا تبشّر تصريحات المرشحَين الرئاسيين وأداؤهما بأن الرئيس الجديد للولايات المتحدة سيكون أقلّ عنفاً من أوباما. المرشحة عن الحزب الديموقراطي هيلاري كلينتون مثلاً، دعمت إجراءات أوباما القمعية، وأيّدت اعتقال المسرّبين وسجنهم، حتى قبل أن تطاولها التسريبات، ورفضت أي محاولة لكشف معلومات مهمة للمواطنين. كلينتون كرّرت، في تصريحاتها، أنه كان "من الأفضل لو لجأ سنودن إلى قنوات حكومية أو إلى الكونغرس، بدل إعطاء المعلومات للصحافيين"، كلام يدلّ على جهل تام بدور المسرّبين وأهدافهم لتوعية الرأي العام، وتجاهلٌ لما قد تفعله أي جهة حكومية ضد مواطن يمتلك وثائق مهمة وسرّية، اذا لجأ إليها أولاً. حاولت كلينتون في أكثر من مناسبة تحويل الأنظار عن خطورة مضمون التسريبات ومسّه بحياة المواطنين وقيمهم، بالتركيز فقط على أن المسرّبين "مكّنوا الصين وروسيا من الحصول على معلومات سرّية". وبعد نشر "ويكيليكس" رسائلها الإلكترونية التي كشفت أخطاء هيلاري السياسية والمهنية الكارثية كوزيرة للخارجية في عهد أوباما الأول، وكمرشحة للرئاسة حالياً، لم يكن مستوى التعامل الرسمي والقضائي مع القضية عادلاً، فنفدت كلينتون من أي عقاب. "لو أرسل أي موظف رسمي عادي معلومات سرية عبر برنامج بريد إلكتروني غير محمي كما فعلت كلينتون، لكان خسر وظيفته بالتأكيد ولاحقه القضاء"، قال إدوارد سنودن في مقابلة منتقداً أداء الإدارة الأميركية والقضاء في عهد أوباما تجاه من طاولتهم التسريبات وعلى رأسهم كلينتون. لذا، لا يبدو سنودن وزملاؤه متفائلين بالعهد المقبل، إن مع كلينتون او مع دونالد ترامب، إذ يرون أن "المسؤولين والقضاء ومعظم الإعلام متّحدون ضد المسرّبين". وبشأن تهديد ترامب لسنودن "بمعاقبة الجواسيس بالإعدام"، ردّ سنودن إنه "ليس خائفاً منه حتى لو صار رئيساً"، مضيفاً: "لا يمكنني أخذ أي تصريح له على محمل الجدّ".
لكن "حرب أوباما على المسرّبين" لم تكن شاملة، ففي أكثر من قضية خرق للسرية، لم يتحرّك القضاء ولم يعترض البيت الأبيض ولم يحاكم أحد، إن لمصالح سياسية أو انتخابية. مدير "وكالة الاستخبارات المركزية" السابق ووزير الدفاع السابق ليون پانيتا، لم يلاحق قضائياً في عهد أوباما مثلاً، وهو قد سمح لفريق تصوير فيلم سينمائي بالاطلاع على الوثائق السرية لعملية الهجوم على مكان إقامة أسامه بن لادن، بعيد تنفيذ العملية. أو مثلاً، عندما سرّب أحد صحافيي "ذي نيويورك تايمز" معلومات سرية موثقة عن "شنّ أوباما، بمساعدة إسرائيل، هجوماً إلكترونياً على إيران"، حينها لم يُلاحق الصحافي الذي سرّب تفاصيل دقيقة عن العملية ولم يحاكم مصدر معلوماته، عكس ما حصل مع صحافيين آخرين عوقبوا لنشر وثائق سرية بمواضيع أخرى.
في المحصلة، سجّل عهد أوباما زيادة في تصنيف الوثائق "سريّة"، إذ بلغ عددها أكثر من ٧٦ مليون وثيقة عام ٢٠١٠، فيما بلغت نحو ٢٣ مليون عام ٢٠٠٨، ترافق ذلك مع زيادة ضخمة في الميزانية المخصصة لحماية الوثائق السرية.
"جوّ الرعب" الذي أرسته إجراءات إدارة أوباما، بمساندة القضاء ضدّ المسرّبين، هو "أخطر ما حصل في العهدين السابقين، وما يزيد من التشاؤم تجاه المرحلة المقبلة هو غياب أي تضامن فعلي في الدفاع عن المسرّبين من جانب الإعلام وأعضاء الكونغرس"، يقول بعض الناشطين الأميركيين.




«هستيريا» ضد موسكو

قوبل عمل الناشطين المسرّبين في أغلب الأحيان باتهامات مضادة ونظريات مؤامرة وتخوين، الى جانب الضغوط السياسية والقضائية والتهديدات الأمنية التي تمارس ضدهم. آخر تلك الحملات تسريب «ويكيليكس» جزءاً جديداً من رسائل مدير حملة هيلاري كلينتون الانتخابية، جون پوديستا، (الجزء الخامس والعشرين من مراسلاته) بعد نشر مجموعة مراسلات أعضاء الحزب الديموقراطي قبل أشهر. وقد دفع ذلك بإدارة الحملة وكلينتون الى اتهام روسيا بتزويد «ويكيليكس» بتلك المراسلات.
اتهام المسؤولين الأميركيين لروسيا بضلوعها بالتسريبات ليس الأول، لكن جوليان أسانج نفى أمس، لقناة «روسيا اليوم» أن تكون «الحكومة الروسية هي مصدر التسريبات» الأخيرة. وقال «أشعر بالأسف تجاه كلينتون التي تأكلها طموحاتها من الداخل».
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد وصف اتهامات كلينتون وممثلي الحزب الديموقراطي بـ»الهستيريا» التي تسعى إلى صرف انتباه الأميركيين عن المشاكل الحقيقية في بلادهم.