مشكلة ذاكرة الإنسان الوحيدة أنّها غير قابلة للتحكم. يتمنى الواحد لو أنّها سلسة، قابلة للتكوّر والتغيّر مثل العجين في أيدي السيّدات... لو أنّ الذاكرة تسير بحسب احتياج القلب أو رغبات العقل المختلفة، يقودها كما يشاء، ويُديرها في اتجاهات المزاج المختلفة.لماذا يُجبر إنسان ما على أن يبقى عالقًا بين حبال أحداث وقعت له قبل أكثر من سنتين، مثل الحرب؟ تصرّ الحرب على ألّا تفارق الشخص. هي كالظلّ، تولد في يومٍ من الأيام، وتبقى قرينته، ملاصقة لقلبه وروحه، لا تفارق التفكير، وتلازم الحياة بغرابة.
تصرّ على "دحش" نفسها داخل تفاصيل الحياة اليوميّة للناس. تلازمهم، وفي حينٍ ما تصير شيئًا عاديًا طبيعيًا، كأيّ جزء من تفاصيل حياتهم، فتكون التواريخ مختلفة وفق تقويم، وتبني الذاكرة تفاصيلها على نمط هذا الشيء الغريب المُسمى الحرب.
تصير كلّ الأحداث ما قبل وما بعد الحرب، نقطة فاصلة في الزمن ونقطة مهمّة في التقويم، تقدر الذاكرة على استغلاله جيّدا لتوضيح أمرٍ ما.
تأخذ الحرب في الحياة مكانها، تصرّ على البقاء أوسع مما أراد لها ساستها ومقاتلوها، فهي غير مرتبطة بزمن. في حفلٍ ما، تصرّ على أن تحضر، يُذكر اسم شهيدٍ ما وسط الحفل، يُحيَّى، ويتذكّر كلّ الموجودين في إحدى السهرات العائلية طفلهم الذي فقده كرسيّه بين الجمع الجالس في صالة الحضور.
غريبة هي الحرب، غريبة الحياة، وغريبة الذاكرة بأفعالها، كأنّها انسلخت عنّا كجزءٍ منّا، ووقفت في صفّ الحرب التي قتلت قلوبنا وحرقت حشائش الروح.
جاءت الحرب، أضرمت النار في حقول الجمال المزروعة في الذاكرة من خلفها، ومشت. أمسكت بيد الذاكرة إلى الأمام. جعلت القلب والعقل خلفها مثل بهيمة تجرّها بكلّ سهولة، لا تقدر على الحديث بأيّ حرف ليقول لا.
الحرب كائن متسلّط، يسرق كلّ شيء، يقطع الطرق أمام الفرح، ويمنع السعادة من الوصول إلى ديارها المعتادة.
الحرب كما تركت خلفها، أناساً كثيرين، لا يعودون إلى ديارهم، إنما تعود هي مكانهم فقط، بكلّ تفاصيلها المختلفة الحاضرة دومًا، ولا يحضر غيرها.