يعيش الرئيس سعد الحريري نشوة تكليفه تأليف أولى حكومات عهد الرئيس ميشال عون. نشوة يبدو أنها تمنعه عن رؤية ما عاشه في السنوات الست الماضية، سوى كعوارض جانبية لخروجه من السلطة، وللأزمة المالية لشركته. يظن أن اتفاقه مع الجنرال ميشال عون، ودخوله في ائتلاف حكومي، سيمكّنانه من استعادة قوة تياره، استناداً إلى جاذبية السلطة. إفراط في التقليدية: خطاب عاطفي، مقابلة تلفزيونية، مبادرة نحو الخصوم، محاولة تصفير المشكلات، ثم عودة إلى السلطة. واستعارةً لأدوات عفى عليها الزمن، بدأ فريق الحريري منذ أمس التبشير بمؤتمر باريس ــ 4، لدعمه ودعم العهد الجديد. يُمنح الخبر صبغة احتفالية، كما لو أن مؤتمرات باريس 1 و2 و3 غيّرت طبيعة الاقتصاد اللبناني، وانتشلته من الحضيض الذي هو فيه، وكما لو أن باريس فرانسوا هولاند (ذو شعبية لا تتجاوز عتبة الـ4 في المئة من الفرنسيين)، هي نفسها باريس التي في خاطر من لا يريدون إدراك الواقع كما هو. باريس اليوم تبيع مواقف في السياسة الدولية لمن يدفع أكثر. و"المانحون" أرهقهم التبذير في العقود الماضية، وأتى انخفاض أسعار النفط ليقلّص قدرتهم على الإنفاق "الخيري". لكن ما همّ. مشكلتنا، كلبنانيين، ليست في أن "المانحين" ما عادت لديهم القدرة على المَنْح، بل في طبقة حاكمة لا تزال تستخدم الأدوات التي سبق أن جرّبتها طوال 3 عقود، وتظنّ أنها لا تزال صالحة لنا اليوم. لا مجال لدى هذه الطبقة، التي يمثّلها الحريري في السلطة، للبحث عن أدوات جديدة للعمل خارج الصندوق. لا سبيل لتحسين الاقتصاد إلا بالتطلّع نحو المانحين، غرباً. ولا اقتصاد حقيقياً إلا ما يقرره لنا رياض سلامة ونادي أصحاب المليارات التي لا تكفّ عن التضخّم (جمعية المصارف).لم يتعلّم الحريري، ولا فريقه، درس "بيروت مدينتي"، مثلاً. ليس المقصود هنا أن من صوّتوا لهذه المجموعة كانوا معترضين على السياسة المالية ــ النقدية لرئيس تيار المستقبل، ولا على علاقاته مع الغرب ودول الخليج. لكن ما يمكن الجزم به هو أن من اقترعوا لـ"اللائحة البيضاء" في بيروت قبل أشهر، كانوا يحتجّون على كل شيء. ليسوا من دعاة سياسات اقتصادية ذات طابع اشتراكي بالضرورة، لكنهم بالتأكيد يعبّرون عن عدم الرضى عما آلت إليه أحوال البلاد. وأحوالنا اليوم ليست سوى نتيجة لاستخدام أدوات الصندوق نفسه. مؤتمرات في باريس، والكثير من الكلام الفارغ الذي لا ينتج سوى اليأس. صار الحصول على أبسط الحقوق، كالماء والكهرباء والعبور الآمن والسريع من المنزل إلى العمل أقصى الطموح. لكن الصندوق نفسه يبقى هو الحاكم. وفي هذا الصندوق، لا قيمة لرقم يُظهر أننا نعيش في بلد من الأكثر اكتظاظاً في العالم. ولأجل ذلك، يحتاج إلى قوانين طوارئ بيئية وعمرانية، وإلى شبكة مواصلات تنتمي إلى عصرنا، تتضمّن ميترو أنفاق في العاصمة، وخط سكة حديد من بيروت إلى طرابلس والهرمل وصيدا وصور وبنت جبيل ومرجعيون وحاصبيا. سكة حديد تتصل مستقبلاً، بعد انتهاء الحرب، بدمشق وحمص واللاذقية، ومن هناك إلى أنقرة واسطنبول وأوروبا، والأردن والخليج، وبغداد وطهران والصين. الصين نعم. يمكن مرفأ طرابلس أن يكون أكثر من مجرّد منشأة نختلف على طوائف أعضاء هيئة إدارتها. هو يملك كل المقوّمات ليكون ميناءً عالمياً، متصلاً بطريق الحرير الجديد، الذي افتُتِح قبل أشهر أحد خطوط سكة الحديد الخاصة به، والذي سيكون مخصصاً لنقل البضائع من الصين إلى أوروبا. مرفأ عصري، قرب منشآت نفطية وغازية ضخمة، تجعل باريس بحاجة إليه لا العكس.
ثمة فرص حقيقية في مكان آخر، غير باريس 4، وبعيداً عن تبديل عبد المنعم يوسف، والانتقام من أشرف ريفي، وتخفيف زحمة السير في كركول الدروز، وزيادة أرباح المصارف، ورفع أسعار العقارات في بيروت الكبرى. سكة الحديد من بيروت إلى المحافظات تحلّ جزءاً كبيراً من أزمة السكن والمواصلات في العاصمة والضواحي، وتغيّر طبيعة الاقتصاد في الأطراف. حتى في الصندوق نفسه، ثمة دراسات للبنك الدولي، مثلاً، عن جدوى مشاريع كبرى كهذه.
هل يُمكن التعويل على الحريري للتفكير بما يُغيّر أحوالنا وأحوال الأجيال القادمة؟ إذا كان باريس 4 هو البداية، فحتى الحلم سيكون مستحيلاً.