في المساحة الضيّقة المعزولة عن العالم بستارة، كتب المقترع الأميركي اسم رئيسه المرجوّ أمس، فكان الخيار، دونالد ترامب، لأنه، في النهاية، وعلى الطريقة الأميركية الصرفة: Why Not؟، "لمَ لا؟". الصدمة التي أصابت الناخبين والسياسيين والإعلاميين في الولايات المتحدة والغرب، ما كانت لتحصل لو فتح النخبويون آذانهم للشارع الأميركي، بعيداً عن التنميط السياسي وعن فلسفة المطالب الاجتماعية ــ المعيشية. ولكانت الصدمة أقلّ حدّة لو نظر هؤلاء بعيون الناس إلى واقع المدن الأميركية وأريافها ومناطقها الصناعية وأسواقها التجارية وطريقة تفكير مواطنيها.أراد النخبويون هيلاري كلينتون (ابنة العهود السابقة، تلميذة المنظومة السياسية وشريكة لوبيّاتها)، رئيسة، فاختار الأميركيون نجم "تلفزيون الواقع" الذي يتحدّث لغتهم! درس في الواقعية كان لا بدّ منه، لنخبة جنّدت كل قواها من أجل مسخ "الآخر" الذي لا يشبهها... فقط لأنه لا يشبهها.
لعلّ المثل الأفضل الذي يجسّد وسع الهوّة بين طريقة تفكير النخبة وواقع الناس، هو في الحجج التي قدّمها كلّ من الكاتب والمخرج الأميركي، مايكل موور، والكاتب والفيلسوف الفرنسي، برنار هانري ليڤي (على سبيل المثال لا الحصر)، حول وصول ترامب إلى الرئاسة. موور كان واثقاً منذ الصيف الماضي بأن الأميركيين سيصوّتون للمرشّح الجمهوري، بينما شارط ليڤي على العكس، علماً بأن الاثنين يُجمعان على أن وصوله إلى الرئاسة، كارثة.
قبل أشهر، وبخلاف اللهجة الإعلامية السائدة، فنّد الكاتب الأميركي في تموز الماضي "الأسباب الخمسة التي ستؤدي إلى فوز ترامب بالرئاسة"، معبّراً عن استيائه الشديد من حصول ذلك، لكن أيضاً عن ثقة كبيرة في رؤيته. موور، القريب من نبض الشارع، والذي بنى معظم مواضيع أعماله التصويرية وكتبه على تجارب الناس الحياتية، شرح عن: مزاج الشارع في بعض الولايات الأساسية (مثل ميتشيغن، بنسلفانيا، ويسكونسن، أوهايو) التي كان من شأنها أن ترجّح الكفّة لترامب، وعن "العاملين فيها وغير العاملين الغاضبين الذين يشعرون بالمرارة بعدما كذب عليهم اقتصاد (الرئيس السابق رونالد) ريغن وتخلّى عنهم الديموقراطيون لإسعاد مجموعات الضغط"، وعن انتشار "عقلية الذكر الأبيض المهدد بالانقراض" الذي ترعبه فكرة أن تحكمه امرأة، وعن الديموقراطيين "المحبطين من فشل المرشّح بيرني ساندرز"، وعن "الغاضبين من نظام سياسي معطوب، والذين سيصوّتون فقط لأن ذلك سيعكّر صفو الوضع الراهن". شرح عن كلّ هؤلاء، إضافة إلى كثيرين لا يمتلكون سبباً كافياً ــ خصوصاً أن كلينتون ليست محبوبة كثيراً أيضاً ــ للذهاب إلى الاقتراع أصلاً.
أخرج موور الصورة الواقعية المظلمة التي تجاهلها النخبويون (عن جهل أو عن قصد؟)، واستطاع بعملية حسابية بسيطة توقّع النتيجة التي "صدمت" الكثيرين أمس.
أما ليڤي، فاعتمد رهانه، كما اللهجة الإعلامية السائدة، على التهجّم على شخص ترامب ووصفه بـ"السوقي"، وصوّره على أنه "إهانة" للولايات المتحدة، وقدّم علاقته بالرئيس الروسي كـ"تهمة" تدينه (ماذا عن علاقة كلينتون بآل سعود؟ لا شيء). خسر ليڤي رهانه على فشل ترامب، ودعا بنبرة تنظيرية المصدومين بُعيد صدور النتائج إلى "الكفّ عن (العيش بحالة) إنكار، إنكار أن الكوارث قد تحدث"، متهرّباً من تحمّل مسؤولية تحليله الخاطئ. بالمناسبة، كان ليڤي قد حسم في حزيران الماضي أن البريطانيين "لن يصوّتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي"، وقد خذل الواقع، حينها أيضاً، تحليله المركّب سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ونفسياً.
فوز ترامب أمس، ليس فقط "قنبلة مولوتوف رماها الناخبون على الأوغاد الذين سبّبوا" أزمات بلادهم كما قال البعض، بل أيضاً على الخطاب السياسي ــ الإعلامي الذي فضّل إرضاء النخبة على الالتفات إلى الواقع.