يفترض تناول السياسة الخارجية للجمهورية اللبنانية بالدراسة والتحليل، من زاوية الواقعية السياسية. الإحاطة بالموضوع بطريقة براغماتية قد تكون مختلفة، وإن كانت تنطوي على بعض الأفكار أو الطروحات التقليدية والكلاسيكية، إلا أنها تقتضي تسمية الأمور بأسمائها والتركيز على واقع الدبلوماسية اللبنانية، الحديثة والمعاصرة، بما تتضمنه من تجارب تاريخية ومحطات مفصلية، لمحاولة فهم السياسة الخارجية بخصائصها وعناصرها ومشاكلها، بشكل أفضل وأقرب إلى الواقع السياسي والمسار التاريخي، ذلك أنها تحيلنا على الكثير من التعقيدات والتوازنات والتحديات الداخلية والخارجية، حيث يتشابك أو يتداخل الكثير من الحسابات والرهانات والمصالح المحلية والأجنبية في إطار عملية صنع القرار على صعيد السياسة الخارجية.فالسياسة الخارجية لبلد صغير مثل لبنان، يشهد بل يعيش باستمرار انقسامات سياسية داخلية، عمودية وحادة، ويعاني من الأزمات والمشاكل المزمنة والمستعصية، ويتأثر بأحداث خارجية دراماتيكية بطريقة مشهدية تكتسي أهمية خاصة بل مضاعفة، وربما تكون أهمية كبرى وقصوى، وإن كانت بعض دوائر القرار والنخب السياسية والفكرية والأوساط الحزبية لا تولي السياسة الخارجية اللبنانية العناية والمتابعة اللتين تستحقهما، ومقاربة جدية ترقى إلى مستوى تحمل المسؤولية الوطنية. وربما لا تؤمن بها ولا تدرك جدواها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، بينما يمكن الدبلوماسية اللبنانية أن تلعب في زمن السلم وفي حالة الحرب، دوراً بالغ الأهمية والخطورة، لكنه معقد ومركب، في إدارة العلاقات الخارجية بطريقة ذكية ودقيقة للغاية، وفي إدارة المفاوضات التي كثيراً ما تكون، بحالة القضية اللبنانية، شائكة ومضنية، وكذلك مصيرية ومكلفة، أو هذا ما يجب أن تقوم به دبلوماسية الدولة اللبنانية كي تكون ناجحة وفعالة.
مع ذلك، كان البحث أو الخوض في السياسة الخارجية اللبنانية، ولا يزال، مادة دسمة للنقاش أو الاختلاف السياسي بين اللبنانيين، وخاصة السياسيين والمعنيين في مجلسي النواب والوزراء ووزارة الخارجية والأحزاب والقوى السياسية. والملاحظة التي يمكن تسجيلها في هذا المضمار أن شكل واتجاه هذه السياسة الخارجية ارتبطا بالأشخاص، والمقصود الشخصيات التي ترأست أو قادت الدبلوماسية اللبنانية، في الإدارة المركزية وفي البعثات الخارجية، وبميولهم أو خلفياتهم السياسية، أكثر من ارتباطها بالرؤى أو البرامج التي تجسد الثوابت والخيارات.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الدبلوماسية اللبنانية ربما تحتاج إلى أشخاص يتمتعون بالموهبة الدبلوماسية التي لا تكتسب بالدراسة والتحصيل العلمي فحسب، دون أن يعني ذلك ألا وجود لهذه النخبة من الدبلوماسيين بالكامل، والتي تصقل تلك الموهبة بالممارسة ومراكمة الخبرة، فيشكل وجود مثل هؤلاء الدبلوماسيين، ممن يتمتعون بقدرات أو إمكانيات شخصية، إضافة مفيدة ومهمة للغاية بالنسبة للسياسة الخارجية اللبنانية ودبلوماسيتها. والدولة اللبنانية، أو الحكومة، كغيرها من بعض الدول العربية، ولا نقول كافة الدول العربية، قد تعمد، لدى تعيين بعض الدبلوماسيين في بعض المناصب العليا والمراكز المتقدمة في السلك الخارجي، إلى اختيار أشخاص من خارج هذا السلك، وذلك على أساس المحاباة أو المحسوبية أو الزبائنية السياسية، لا على قاعدة الجدارة والكفاية العلمية، ربما لإرضاء أو لإقصاء بعض السياسيين أو العسكريين أو غيرهما، حيث يجري ذلك بطريقة عشوائية أو انتهازية. كما أن الدبلوماسية اللبنانية ينقصها استحداث أو إنشاء أكاديمية متخصصة في إعداد وتأهيل الكادرات المتخصصة للعمل في السلك الخارجي، وهذا من شأنه أن يساهم ويساعد في النهوض بالمؤسسة الوطنية الرسمية التي تتولى السياسة الخارجية اللبنانية وتحديثها، وتمكين الدبلوماسية اللبنانية وتطويرها لتصبح دبلوماسية متخصصة ومحترفة.
كذلك، عندما نتكلم في السياسة الخارجية للجمهورية اللبنانية، لا يسعنا سوى أن نشير، بكل وضوح وصراحة، ودون مواربة أو مكابرة، إلى مسألة محدودية الإمكانات المتاحة والموارد المتوافرة، كالموارد المالية المخصصة لها، وأن نقرّ بأثرها السلبي على سير عمل ومستوى أداء الدبلوماسية والسلك الخارجي؛ فضعف أو ربما هدر الموارد والإمكانات من شأنه تقويض العمل الدبلوماسي وخفض سقف التطلعات أو الطموحات، كما الحد من إمكانية تحقيقها، وضرب، أو لنقل تحقير، الصورة والمظهر الخارجيين للدولة اللبنانية في المجالين العربي والدولي.
وقد أثبتت التجربة السياسية، ومن واقع الممارسة السياسية، أن الدولة اللبنانية، أو بمعنى أصح نظام الحكم السياسي، لا يحتمل المغالاة أو المغامرة في اتخاذ المواقف الحادة وسلوك الخيارات المتطرفة على مستوى السياسة الخارجية، انطلاقاً من ضرورة الالتزام بمراعاة مقتضيات الوحدة الوطنية، دون أن يعني ذلك بالتأكيد عدم القدرة على اتخاذ المواقف المبدئية وسلوك الخيارات الحاسمة بطريقة واضحة وصريحة، استناداً إلى الثوابت الوطنية وانسجاماً معها، لا سيما في ما يخص القضايا المصيرية والاستراتيجية، وبما يؤمن المصلحة الوطنية العليا.
كما أن التركيبة السياسية اللبنانية لا تحتمل الانحياز بمعنى الدخول أو الانخراط في سياسة الاستقطاب والتموضع أو الاصطفاف الفئوي أو الجهوي في المحاور الدولية والإقليمية. وقد ثبت ذلك أيضاً بالتجربة السياسية وبفعل الممارسة السياسية؛ فالدبلوماسية اللبنانية لا يمكنها الخروج على الإجماع العربي، أو لنقل الاتجاه الغالب داخل المجموعة العربية، أو الوقوف إلى جانب أحد الأطراف العربية في مقابل سواه، في حالة الانقسام في المشهد السياسي العربي. كما لا يمكنها أيضاً مخالفة الشرعية الدولية أو التمرد على المجتمع الدولي، ولا سيما مجموعة القوى الغربية، أو ربما تأييد إحدى القوى الدولية دون سواها، في حالة التنافس أو الصراع في السياسة الدولية.
الخوض في السياسة الخارجية اللبنانية مادة دسمة لاختلاف السياسي

لكل ما تقدم، لا يمكننا، حينما نتحدث في السياسة الخارجية اللبنانية، أن نغفل مسألة محدودية الإنجازات التي يمكن أن تسجلها أو تحققها الدبلوماسية اللبنانية، أو لنقل النتائج، حيث تبقى الإنجازات، والمقصود الإنجازات الكبرى والتاريخية، صعبة للغاية ومحددة، أي موضعية أو جزئية، وعلى ضوء الظروف الداخلية والمعطيات الخارجية، الدولية منها والعربية أو الإقليمية. فالواقعية السياسية تقتضي، على هذا الصعيد الوطني والسيادي، أن نقر بأن المبالغة في رفع سقف التوقعات، بالنسبة للنتائج المنتظرة أو المفترضة، لا تستقيم مع مثل هذه المقاربة المنطقية في التحليل السياسي والفكري، وبالتالي أن نقبل، أو نتقبل حتى، ما يمكن أن نصل إليه أو نحققه من مكاسب أو نتائج معقولة.
وعلى قاعدة الواقعية السياسية نفسها، تبقى السلطة السياسية في البلد، على مستوى الحكومة أولاً، وعلى مستوى وزارة الخارجية ثانياً، مسؤولة عن الكشف عن مكامن الخلل والضعف البنيويين والسلوكيين في السياسات العامة للدولة اللبنانية، ولا سيما السياسة الخارجية، وفي الممارسة السياسية والأداء الدبلوماسي، كما داخل المؤسسات السياسية والدستورية والهيئات أو الأجهزة المختصة، مهما كانت وحيثما تكون، والبحث في كيفية معالجتها، أو تجاوزها على الأقل والتقليل من مضاعفاتها وتأثيراتها؛ كما لا يسعنا سوى التأكيد على أن الدبلوماسية اللبنانية معنية بتحديد وتبيان عوامل القوة اللبنانية وعناصرها، السياسية وغير السياسية، ومنها الشعبية والمادية، أو العسكرية والاستراتيجية واللوجستية، والتي يمكن تثميرها وتوظيفها في خدمة الأهداف المحددة والمرسومة للسياسة الخارجية اللبنانية وبقصد التصدي للتحديات أو الأخطار المحدقة بالبلد ومعرفة كيفية التعامل معها.
إن السياسة الخارجية للجمهورية اللبنانية، من زاوية الواقعية السياسية، ومن منظار المسؤولية الوطنية، ليست بالتأكيد مجرد وجهة نظر، كما أنها ليست وليدة اللحظة السياسية والتاريخية، أو ربما الصدفة الزمنية، مع ما يعنيه كل ذلك من ممارسات أو سلوكيات ارتجالية غير مسؤولة، أو أقله غير مدروسة وغير محسوبة، أو بمعنى أصح لا يمكن ولا ينبغي حتى أن تكون كذلك، وإنما هي تعبير رسمي عن رؤية وطنية واستراتيجية لإدارة العلاقات الخارجية، تضعها الحكومة اللبنانية، وتعهد إلى وزارة الخارجية تنفيذها، في سبيل بلوغ المقاصد أو الأهداف السياسية والدبلوماسية، المرسومة أو المحددة من قبل الحكومة أو السلطة السياسية، والتي تصب في خدمة المصلحة الوطنية العليا.
هكذا يجب أن يدرك كل اللبنانيين، من سياسيين ودبلوماسيين وحقوقيين ومواطنين عاديين، معنى السياسة الخارجية، كما الدبلوماسية لكونها أداة تنفيذ السياسة الخارجية، وأن ينظر ويتطلع الجميع للسياسة الخارجية التي تعتمدها الدولة اللبنانية على هذا الأساس، فتخرج من دائرة الخلاف أو الجدال السياسي، ولا تكون انعكاساً أو امتداداً للصراعات السياسية، وتبقى بمنأى عن الاستقطاب أو الاصطفاف السياسي، ولا تفسدها أو تمسها المزاجية أو الكيدية السياسية، على أن يعيد مجلسا الوزراء والنواب، كما وزارة الخارجية، النظر بالسياسة الخارجية للدولة اللبنانية بحسب الإمكانات المتاحة أو المتوافرة والتحديات الراهنة والمستقبلية والاحتمالات الممكنة أو المتوقعة.
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية