ساهم الشيوعيون المصريون في دور أساسي في حركة 23 يوليو/ تموز 1952 من خلال الجناح العسكري لـ«الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني- حدتو»، وقد قاد القائمقام يوسف صديق الكتيبة التي اعتقلت كبار قادة الجيش المصري الموالين للملك فاروق، كما كان الجهاز الفني في «حدتو» هو الذي يطبع منشورات تنظيم «الضباط الأحرار» بما فيها الوثيقة البرنامجية «أهداف الضباط الأحرار» والتي شارك في كتابتها أعضاء في «حدتو» مثل خالد محي الدين وأحمد فؤاد. مع السلطة الجديدة التي أيدتها «حدتو»، بخلاف المنظمات الشيوعية الأخرى، حصل الصدام في كانون ثاني 1953 مع تظاهرات عمال كفرالدوار وإعدام العاملين مصطفى خميس ومحمد البقري، وفي أزمة مارس/ آذار 1954 رأت «حدتو» نفسها أقرب إلى حزب الوفد وجماعة «الإخوان المسلمين» واللواء محمد نجيب في المطالبة بعودة التعددية السياسية الحزبية وعودة العسكر للثكنات. لكن عندما بدأ الرئيس جمال عبد الناصر في الابتعاد عن الغرب والاقتراب من موسكو في عام 1955، رأت «حدتو» نفسها مع عبد الناصر، وفي مرحلة حرب 1956 وما بعدها قادت «حدتو» المقاومة المسلحة ضد قوات الاحتلال البريطاني في مدينة بورسعيد. بين عبدالناصر وخصومه، أي «الاخوان المسلمون» والوفديون وشيوعيو منظمتي «الراية» و«طليعة العمال»، كانت «حدتو» خطاً ثالثاً يقرّ بوطنية نظام 23 يوليو ولكن يعتبره متصارع الأجنحة بين يمين ويسار وطني ــ تقدمي وينسب لجمال عبد الناصر قيادة الجناح الأخير. عندما توحدت «حدتو» مع «الراية» و«الطليعة» وشكّلت الحزب الشيوعي المصري يوم 8 يناير/ كانون الثاني 1958، انقسمت «حدتو» من جديد عن «حزب 8 يناير» في أيلول 1958 لأنها لم ترد الصدام مع عبد الناصر الذي اصطدم مع الشيوعيين في موسكو ودمشق وبغداد والقاهرة على خلفية صدامه مع سلطة 14 تموز 1958 في بغداد بقيادة عبد الكريم قاسم. أرادت «حدتو» خطاً ثالثاً: لا صدام، ولكن تأييد مع تمايز عن عبد الناصر الذي اشترط حل الأحزاب في القاهرة ودمشق. لم يميّز عبد الناصر الخط الثالث لـ«حدتو» عندما شن حملة اعتقالات الشيوعيين في القاهرة ودمشق ليلة رأس سنة 1959. في السجن ظل سجناء «حدتو»، بتمايز عن شيوعيي «تنظيم 8 يناير»، في خط تأييد عبد الناصر وخاصة مع إجراءات التأميم في يوليو/ تموز 1961، وكانوا خطاً ثالثاً بالقياس إلى شيوعيين أتوا من «الراية» واندمجوا في «8 يناير»، مثل فؤاد مرسي واسماعيل صبري عبدالله. استمر سجناء «حدتو» في نظرية الأجنحة المتصارعة في سلطة 23 يوليو 1952 ولكن ظلوا على اتفاق مع «8 يناير» في رفض حلّ الأحزاب. عندما طرح ميخائيل سوسلوف في شباط 1964 مقولة: «التطور اللارأسمالي: تحول سلطة القوى الديموقراطية الثورية للتقارب والاندماج مع الشيوعيين، مثل كوبا كاسترو، لقيادة التحول باتجاه الاشتراكية»، وأفرج عبد الناصر عن السجناء الشيوعيين بمناسبة زيارة خروتشوف للقاهرة في مايو/ أيار 1964، كانت هذه مناسبة لانتصار «حدتو» بين الشيوعيين المصريين كخط، ولكن عندما تم حل تنظيمي الشيوعيين المصريين: «حدتو» و«تنظيم 8 يناير» في مارس/ اذار وإبريل/ نيسان 1965 لاندماج أعضائهما في «تنظيم الاتحاد الاشتراكي» كان هذا يعني هزيمة الخط الثالث الذي حملته «حدتو» منذ عام 1955.
لم يولد «الخط الثالث» في سوريا رغم ثلاثين اجتماعاً كان آخرها في تموز 2010
في سوريا كان هناك خط ثالث بين المتصارعين: «السلطة» و«الإخوان المسلمون» في أحداث 1979-1982 عبر «التجمع الوطني الديمقراطي» الذي ضمّ خمسة أحزاب وحركات عروبية وماركسية، والذي قدم برنامجاً للتغيير الوطني الديمقراطي بعيداً عن السلطة ومواليها في «الجبهة الوطنية التقدمية» وبعيداً عن عنف «الإخوان» وبرنامجهم الإسلامي. في العراق لم يكن هناك خط ثالث في فترة 1991-2003 بين صدام حسين وأحمد الجلبي، وفي ليبيا 2011 لم يوجد الخط الثالث بين معمر القذافي ومصطفى عبد الجليل الذي كان مثل جلبي العراق من خط الاستعانة بالخارج من أجل إحداث التغيير الداخلي. في سوريا بين شهري كانون ثاني 2008 وتموز 2010 بدأت محادثات بين ناصريي «حزب الاتحاد الاشتراكي العربي» وماركسيي «تجمع اليسار الماركسي-تيم» و«الحزب الديمقراطي الاجتماعي» و«حزب البارتي- جناح نصر الدين ابراهيم»، مع شخصيات عربية وكردية مستقلة، من أجل تشكيل «الخط الثالث» كخط يجمع الوطنية والديموقراطية معاً في المعارضة السورية، يكون متمايزاً ومختلفاً عن خط السلطة ومواليها وعن خط «إعلان دمشق» الذي كان مع الاستعانة بالخارج ويطمح لتكرار في المعارضة السورية لتجربة المعارضين العراقيين الذي استجلبوا الخارج الأميركي في عملية إسقاط حكم صدام حسين عام 2003. لم يولد «الخط الثالث» رغم ثلاثين اجتماعاً كان آخرها في مدينة دوما في تموز 2010، ولكن تشكلت مسودة ورقة برنامجية كانت هي البذرة الجنينية لولادة «هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي» في يوم 25 حزيران 2011 بعد ثلاثة أشهر من نشوب الأزمة السورية عقب درعا 18 آذار 2011. لم يعد «الخط الثالث» بين خط السلطة وخط الاستعانة بالخارج فقط بل انضافت له مضامين جديدة: رفض العنف السلطوي والمعارض، رفض الحل الأمني – العسكري السلطوي والحل الإسقاطي المعارض للنظام لصالح حل تغييري عبر تسوية انتقالية تتشارك على ضوئها السلطة والمعارضة في سلطة انتقالية نحو أوضاع سورية جديدة تتجاوز بنية مرحلة ما بعد 8 آذار 1،963 التي انفجرت منذ آذار 2011 لتقود إلى أزمة سورية - إقليمية - دولية لا مثيل لقوتها وتأثيراتها بالقياس إلى أزمات العالم بفترة ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945.
يمكن القول بأن التجربة السورية هي الوحيدة التي نجح فيها «الخط الثالث» في أن يثبت قوته على الصعيد العربي بين «الحاكم» وبين «المعارض المستعين بالخارج» والذي يكون العنف المعارض والخط الاسقاطي للنظام جزءين من عدة شغله ورؤيته البرنامجية: في لحظات سياسية كان هذا الخط الثالث أو كاد أن يضيع في الزحمة وسط ضجيج خط واشنطن ــ أنقرة ــ الدوحة الذي كان يطمح في خريف 2011 إلى تكرار التجربة العراقية وتلك الليبية التي أسقطت القذافي عبر «الناتو» من باب العزيزية في طرابلس الغرب يوم 23 آب 2011.
وفي مؤتمر القاهرة للمعارضة السورية يومي 2-3 تموز 2012 لم يلتفت أحد للطرح التسووي الذي قدمته «هيئة التنسيق» مستعينة ببيان جنيف1 الذي صدر قبل يومين عبر توافق أميركي ــ روسي. اختلفت الأمور في عام 2016 مع مؤتمر جنيف 3 عندما وضح بأن الخط الإسقاطي قد هزم في المعارضة السورية لصالح الخط التغييري التسووي. من المحتمل الآن أن تقود الأوضاع الميدانية العسكرية ليس فقط إلى هزيمة «الخط الثاني» عند «الائتلاف» والفصائل المسلحة المعارضة بكل ما يحويه من عنف واستعانة بالخارج وخط يدعو إلى إسقاط السلطة بل أيضاً إلى هزيمة «الخط الثالث»، لتنتهي عبر ذلك حظوظ «التسوية» ولتكون «حكومة الوحدة الوطنية»، كخط مكمل لتجربة «الجبهة الوطنية التقدمية»، بديلاً من تسوية بيان جنيف1 الذي ينص على «هيئة حكم انتقالية».
* كاتب سوري