كان ذلك ذات يوم من صيف 1953. 26 يوليو سيصبح دمغة الحركة الثوريّة التي غيّرت لاحقاً وجه الصراع ضدّ الاستعمار الأميركي، وأنظمة الاستعباد والاستبداد التابعة له، في أميركا اللاتينيّة وإفريقيا والعالم الثالث عموماً.
في هذا التاريخ، أي ست سنوات قبل انتصار الثورة الكوبيّة، وسقوط نظام باتيستا، هاجمت مجموعة من الـ«غيريّروس» تضمّ أقل من مئة مجاهد ينقصهم التدريب والتحضير والسلاح، ثكنة مونكادا في سانتياغو دي كوبا. باء الهجوم بالفشل، وقَتل عسكر باتيستا معظم الثوار، فيما اعتُقل الآخرون، وأُخضعوا للتعذيب. بين الناجين كان هناك قائد المجموعة، شاب اسمه فيديل كاسترو وأخوه راوول. ألقى الرفيق فيديل في المحكمة مرافعة ناريّة استغرقت ثلاث ساعات. وختمها خرّيج «الآباء اليسوعيين» بطلب واحد هو الالتحاق برفاقه المعتقلين: «من الطبيعي أن يعتقل أصحاب القيم أو يقتلوا، في جمهوريّة يحكمها سارق وقاتل. أصدروا بحقّي ما طاب لكم من الأحكام، فالتاريخ سيعلن براءتي»!
الـ«ليدر ماكسيمو» يمضي الآن منتصراً، بعد أكثر من نصف قرن في السلطة، وهي مدّة طويلة شهدت التحولات والانهيارات، واعتراها الكثير من المصاعب والتحديات والاخفاقات والخيبات. إنّها نهاية مسيرة صاخبة تمحورت حول النضال الأممي في مواجهة مسخ استعماري لم يفلح في خنق الجزيرة الصغيرة التي بقيت موئلاً للمتمرّدين والثوار من العالم أجمع. نصف قرن هي عمر الحصار الشرس الذي فشل في اخضاع الشعب الكوبي، هذا الحصار الذي أعقب محاولة عسكرية فاشلة في «خليج الخنازير» 1960، وازداد حدّة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ولم يكد ينتشر خبر رحيل الأسد العجوز، حتى انبعثت «هيئة محلّفين» شبيهة بتلك التي مثل أمامها الثائر في شبابه. لقد جاءت لتأخذ ثأراً قديماً. «العالم الحرّ» الذي انقلب على سلفادور إلليندي المنتخب ديمقراطيّاً في تشيلي عام 1973، وتعايش براحة ضمير كاملة مع ديكتاتوريّة خلفه الجنرال بينوشيه الذي أتت به المخابرات الأميركيّة، يريد أن يحاكم كاسترو اليوم. هناك آلة سياسيّة وإعلاميّة ضخمة، تقول لنا إن «كاسترو الديكتاتور جوّع شعبه وخنق الحريّات»... فيما العالم ينعم بالديمقراطية والعدالة طبعاً! حتى الفاشي دونالد ترامب له رأي في الموضوع. كل أصدقاء إسرائيل والمثقفين المتصهينين وتجار الاسلحة ومنظري النقاء العرقي والاستعمار الجديد، رفعوا الصوت في اليومين الماضيين، لهجاء كاسترو عدوّ «الحريّة» التي هم أصدقاؤها.
تلك الماكينة الأيديولوجيّة التي تقولب الوعي وتكيّف العقول، خلف واجهة «الديمقراطيّة» و«حقوق الانسان»، هي سلاح فتاك بيد القوى المهيمنة. وهي امتداد منطقي وطبيعي لـ«عدالة» باتيستا الذي كان يدوس بجزمته على الشعب المعدم جاعلاً من كوبا ماخوراً في خدمة مافيات الرأسمالية في أميركا الشماليّة... من دون أن يزعج الديمقراطيين! «الاعلام الرسمي» الموحّد في العواصم الغربيّة، يحتفل بموت كاسترو، ويأمل «عهداً جديداً من الانفتاح والحريّة». ترجموا: عهداً من الخضوع للمصالح الاميركية والانفتاح على بضائعها والتبعية لسياساتها. فيديل كاسترو لم ينصف فقراء كوبا فحسب، بل أعاد الاعتبار إلى أميركا اللاتينيّة كلّها، وكانت أرضاً سائبة للعم سام. وهو الذي فتح الباب أمام تشافيز وموراليس ولولا ورافاييل كوريا. وناصَرَ مانديلا، وقاتل مع باتريس لومومبا، ودعم الشعب الفلسطيني، ومدّ يده إلى حركات التحرر والمقاومة في العالم الثالث، وتحالف مع جمال عبد الناصر وجورج حبش.
نحن ضحايا السياسات الاستعماريّة في هذا المقلب من العالم، لا تخدعنا الشعارات الجوفاء، ونعرف أن «جريمة» كاسترو الوحيدة بالنسبة إلى رسل «الحريّة» و«حقوق الانسان» أنّه رفض الطغيان والظلم، وقاتل الرأسمالية والاستعمار حتى الرمق الأخير. ونعرف أن الديمقراطيات الاستعماريّة تبني رخاءها وهي تقتات من لحم عبيد الأزمنة الحديثة، داخل الامبراطوريّة وفي الأطراف النائية. ونعرف أن الشباب الكوبي سيلقى «الحريّة» المزعومة يوماً، ويموت من الجوع والمرض والجهل تحت نير العبوديّة واقتصاد السوق. ولهذا ننظر بعين القلق إلى سياسة الانفتاح التي يقودها راوول كاسترو، ونخشى أن تشرّع أبواب كوبا لليبرالية وحشيّة تستفيد منها طبقة الاباراتشيك والنخب العسكرية والتكنوقراطيّة. «نعم ارتكب كاسترو أخطاء ـــ صرخ جان لوك ميلانشون المرشّح اليساري الراديكالي للرئاسة الفرنسيّة، من أمام تمثال سيمون بوليفار في باريس ـــ الجميع يرتكب الأخطاء، لكن الجميع ليس فيديل كاسترو!». ليس من السهل الجمع بين العدالة والحريّة، لكن كاسترو وغيفارا رسما لنا الطريق، وأعطيانا الأمل.
نحن ضحايا السياسات الاستعماريّة في هذا المقلب من العالم، نرفع قبضاتنا في وداع آخر الثوار الكبار. أصواتنا تعلو فرق الكونشرتو الذي يجرّح الضمائر بنشازه. هذا الاقتصاص المتأخّر من الكومندانتيه لن يثنينا عن استئناف مشروعه الفكري النبيل، وإن مثقلاً بالأزمات والتساؤلات والهزائم... الموكب الأممي الذي يرافق نعش الكوماندانتيه إلى بوابة المجد الأخيرة، ويضم الفقراء والمساكين والمّهمشين والمضطهدين والمستغلّين والملعونين في الأرض، يسمعه الآن يقول: «أصدروا بحقّي ما طاب لكم من الأحكام، فالتاريخ سيعلن براءتي». يرحل كاسترو ويترك لنا الأمل. العدالة واستعادة الحقوق والتمرّد على الظلم، تلك عناوين الثورات الآتية بأشكال مختلفة. سيأتي Barbudos (ملتحون) آخرون، في أماكن كثيرة من العالم، ويرفعون الشعار نفسه: «نحو النصر دائماً». Hasta la victoria siempre!