تعتبر الجزائر اليوم من نماذج دول الجنوب التي تحاول أن تصنع قراراتها بسيادية وتوجه اقتصادها بمعزل عن الهيمنة السياسية والاقتصادية للغرب، والتجارب الجزائرية في التنمية والسياسات النولبيرالية و«الانفتاح الديمقراطي» ومواجهة الوهابية المسلحة، تستحق التمعن لاستخلاص الدروس.
من «التسيير الذاتي» إلى «رأسمالية الدولة»
تفكيك الاستعمار الفرنسي للبنى الاجتماعية التي كانت سائدة قبل 1830، خصوصاً «الطبقة» المهيمنة على المجتمع وهم أعيان ما يُسمى «قبائل المخزن» (الوسطاء بين السلطة التركية الحاكمة والشعب)، خلق قابلية لدى الجزائريين لرفض «التمايز الطبقي» والميل نحو المساواة كما يرى محمد بوخبزة (اغتالته الجماعات المسلحة في 1993) في كتابه «أكتوبر 1988: تطور أم قطيعة؟». بعد الاستقلال في 1962 ورثت الجزائر اقتصاداً «رأسمالياً» مرتبطاً بالمتروبول كان يتحكم فيه المستوطنون الأوروبيون، فرضت سيطرة الفلاحين (كان بعضهم مقاتلين في جيش التحرير) على المزارع والوحدات الإنتاجية، التي كان يديرها هؤلاء المستوطنون، على الرئيس بن بلة بلا انتهاج سياسة «التسيير الذاتي» حيث اتخذ قراراً في سنة 1963 بتأميم كل الأراضي الفلاحية التي كان يملكها الأجانب. ويرى الأكاديمي، علي الكنز، في كتابه «اقتصاد الجزائر»، أن عملية السيطرة (الاسترجاع) على الأراضي، وإن كانت ثورية بكل المقاييس، فإنها بسبب افتقارها للقيادة السياسية وللاستراتيجية الواضحة فشلت في تحويل التحرر الوطني إلى ثورة اجتماعية، لذا، يضيف الكنز، كانت نتائجها محدودة وسرعان ما تم احتواؤها بسهولة من طرف قوى اجتماعية غير «بروليتارية».
مع تولي الرئيس هواري بومدين الحكم في 1965 قاد مشروعاً تنموياً، على الطريقة السوفياتية يقوم على أساس «رأسمالية الدولة»، خطى خطوات مهمة في التحديث: بناء قاعدة صناعية إنتاجية وتطوير الزراعة، وتحقيق معدلات نمو مهمة، أحدثت تغييرات اجتماعية معتبرة في المجتمع الجزائري.

العلاقة مع أميركا بعيدة عن التوازن بسبب السياسة الخارجية للجزائر

لكن هذا التحديث لم يكن لوحده كافياً، لإحداث التحولات الكبرى الكفيلة بإنجاح مسار الانتقال الحاسم نحو مجتمع اشتراكي متقدم كما كان يطمح بومدين، لأنه في خضم هذا المشروع التنموي الذي يتطلب «التعبئة الثقافية» الشاملة، من غير أي نزوع نحو «الخيارات التوفيقية»، لكل الفئات الاجتماعية لمواكبته، سلّم وزارة التعليم (ثم لاحقاً وزارة الثقافة)، لأطراف مقربة من «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين» (في إطار إحداث التوازن داخل النخبة الحاكمة بين كل الاتجاهات الأيديولوجية في البلاد ودعم سياسة «التعريب»)، قادت عملية تزوير مُمنهجة للتاريخ الوطني (يكفي أن نقرأ في كتب التاريخ المدرسية أن الثورة خرجت من عباءة جمعية العلماء حتى نعرف حجم التدليس)، وتنظيم «ملتقيات الفكر الإسلامي» التي وضعت بذور الأفكار التي تعتبر النهج التنموي للدولة رديفاً للإلحاد والمروق عن الدين.
تقييم التجربة التنموية في عقد السبعينيات غالباً ما يخضع لاعتبارات أيديولوجية تحاكمها من منطلق معاداتها للنهج الاشتراكي بالأساس، أو تقرأها في غير سياقها التاريخي، فتضخم الأخطاء وتبني عليها، أو«لبرالوية» تُرجعها لغياب «الديموقراطية والحريات»، وهي تغفل العامل الحاسم الذي لعبه «الانقلاب الليبرالي» الذي قاده الشاذلي بن جديد في الثمانينيات الذي أجهز على ما تبقى من فرص نجاحها.

السياسة النيوليبرالية... وفخ الأغبياء

السياسة التي انتهجها الشاذلي بعد توليه الحكم في الثمانينيات هي نموذج عن «عكس التنمية» التي شرحها عامر محسن في مقالته «الإمبريالية والتنمية»، ــ إضافة إلى تشجيع علني رسمي ومستتر للتيارات الإسلامية المختلفة (كان للزنداني والغزالي مثلاً برنامجان أسبوعيان في التلفزيون الرسمي وكثيراً ما حظيا بـ «شرف» مقابلة الرئيس) ــ بدأت بعملية تفكيك ممنهجة للقطاع العام من خلال ما سمي أولاً بـ«إعادة هيكلة المؤسسات العمومية»، القطاع العام آنذاك كما يشرح الجيلالي اليابس، (أكاديمي متخصص في علم الاجتماع اغتالته الجماعات المسلحة في 1993) في دراسة له بعنوان «المؤسسة بين الاقتصاد السياسي والمجتمع»، لم تكن له وظيفة التراكم فحسب وإنما وظيفة سياسية واجتماعية، فالمؤسسة العمومية، الحاضرة بقوة في الحياة اليومية للأفراد، تُعتبر في «المخيال الشعبي» ملك عام لكل الجزائريين وإرث اجتماعي رمزي عام مرتبط تاريخياً بحرب التحرير (يتحدث اليابس كيف أن «مقاتلي جيش التحرير السابقين» أو أراملهم وأبناء شهداء حرب التحرير كانوا يُوظفون في القطاع العام حتى في ظل غياب الحاجة للتوظيف)، ثم انطلقت عملية تدمير منظمة للصناعة الوطنية (صناعات غذائية، نسيج، حديد وصلب... إلخ) بأن ُوضعت أمام منافسة غير متكافئة مع المنتجات الأجنبية التي فُتحت أمامها الأسواق، وصولاً إلى برنامج لخصخصة مؤسسات القطاع العام بحجة زيادة نجاعتها بما عناه ذلك من تفقير الآلاف من العائلات الذين فقد مُعيلوها مناصب شغلهم. في دراسة للكاتب الراحل، سعيد شيخي، عن الطبقة العمالية الجزائرية، يسجل أن حجم العاملين في قطاع التصنيع، الذي كان في تزايد مستمر من 21% في 1967 إلى 33% في 1978 إلى 37% في بداية الثمانينيات، سرعان ما بدأ في الانخفاض مع ما أسماه بمشروع «عكس التصنيع» حتى وصل إلى 13% في 1984، ومع بداية 1988 تضخمت نسبة العاملين في القطاع الإداري والخدمات لتصل إلى 45%.
تزامن هذا مع عملية «تطهير» للنخبة الحاكمة من كل الرافضين لهذا النهج، و«إشراك» القابلين في مزايا «الانفتاح الاقتصادي»، لذا كان يكفي أن تنخفض أسعار البترول في بداية سنة 1986 حتى تدخل البلاد في أزمة حقيقية، قادت إلى انفجار أحداث أكتوبر 1988 حيث وجد الفقراء والمهمشون من ضحايا هذه السياسة أنفسهم في مواجهة الرصاص الحي، فكانت تجسيداً لنهاية التوافق الذي طبع العلاقة بين الدولة والمجتمع منذ الاستقلال، لم يسقط أولئك المهمشون حتماً من أجل «الديموقراطية» أو «التعددية الحزبية» كما نظر آنذاك «مثقفو العهد الجديد» وإنما احتجاجاً على إغماط حقوقهم في الشغل والإسكان والرعاية الصحية التي تكفلت بها دولتهم منذ الاستقلال. من هنا كانت بداية المأساة التي عرفتها الجزائر في العشرية السوداء بين 1992 ــ 2002، ما الذي يمكن توقعه من سياسة ليبرالية متوحشة تؤدي لإفقار الناس، ثم تسليمهم، محبطين يائسين، لخطاب ديني عنيف لجبهة إسلامية، شرّعها «دستور 1989 الانفتاحي»، تضم أطيافاً متطرفة غير متجانسة اجتماعياً وفكرياً (سلفية جهادية، أفغان جزائريون، «هجرة وتكفير»، إخوان... إلخ)، غير تحويل البلاد إلى مقر لـ«السلفية الجهادية العالمية»، أو حرب أهلية تنهار معها الدولة.
لم تكن المسألة الاجتماعية في صلب برنامج «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، بل أظهرت النية للاستمرار في السياسات الليبرالية (مُطعّمة هذه المرة بالأعمال الخيرية التي تتكفل بمتطلبات الفقراء الأساسية) بل لم يجتهد قادتها حتى لإظهار الزهد الذي يحرص عليه عادة قادة التيارات الشعبوية (رد زعيمها عباسي مدني على سؤال صحافي عن السيارة الفخمة التي يتنقل بها أنها مجرد هدية من أحد التجار الخيّرين)، فاختُزل المشهد السياسي آنذاك في تنافس، كما يرى سمير أمين، بين النخبة الحاكمة وهذا الحزب على تمثيل البرجوازية الكمبرادورية، أما القوى اليسارية التي طالها التهميش في الحزب الحاكم وخارجه، وجدت في كتابات المثقفين التقدميين (الذين دفعوا الثمن غالياً بعد ذلك ذبحاً بخناجر السلفيين أو نفياً في عواصم العالم) تجسيداً لرفضها هذه «الثنائية المقيتة».
صحيح أن توقيف انتخابات 1991ــ التي مثّلت فعلاً فخ الأغبياء كما يسميه آلان باديو ــ بعد استقالة الشاذلي (الذي اصطدم مشروعه لاقتسام السلطة مع الإسلاميين مع رغبتهم الجامحة في الاستئثار بكل السلطة)، أنقذ الجزائر من مصير مظلم، لكنه أدخلها في حرب عنيفة شنتها «الوهابية المسلحة» على كل من عارض مشروعها، قدّمت فيها الدولة وجيشها الوطني وفئات فقيرة واسعة (أبناء الأرياف خصوصاً) نماذج في المقاومة، كان على هذه الفئات أن تواجه تداعيات السياسة الليبرالية، ــ تمكنت بعض العصب الحاكمة من تسليم اقتصاد البلاد لصندوق النقد الدولي في ذروة الصراع في التسعينيات باستثناء فترة حكومة بلعيد عبد السلام (وزير الصناعة في عهد بومدين) القصيرة التي أطلق فيها برنامجه «اقتصاد الحرب» القائم على رفض دفع الديون وعلى وقف برنامج الخصخصة وعنف الجماعات المسلحة في الوقت نفسه.

بوتفليقة ومسار التصحيح

أدرك الرئيس بوتفليقة عند توليه الحكم في 1999 خطورة الاستمرار في السياسة الليبرالية على مستقبل الجزائر، وعلى المواجهة مع الجماعات الوهابية المسلحة فوضع في صلب مشروعه استعادة الاستقرار وإعادة سيادة الدولة على الاقتصاد وانتهج سياسة اقتصادية واجتماعية اعتمدت على تمكين الطبقات الفقيرة من الحصول على حصة من الثروة عن طريق استفادتها من تحويلات الدولة الاجتماعية في مجالات الإسكان والصحة والتعليم ودعم الشباب لتأسيس مؤسسات اقتصادية صغيرة ومتوسطة، وبناء مشاريع البنية التحتية الكبرى (الطريق السيار الرابط بين شرق البلاد وغربها، تجديد شبكات القطارات.. الخ) لإعادة النهوض بالاقتصاد الذي خرج منهكاً من الحرب (وصلت خسائرها حسب الإحصاءات الرسمية إلى 30 مليار دولار).
هذه السياسة التي انتهجها بوتفليقة، وسّعت القاعدة الاجتماعية المؤيدة للدولة التي بقيت من غير إطار سياسي أو اجتماعي يعبر عنها، ومكنته من «الهيمنة» على كل المفاصل التقليدية لصناعة القرار في النظام السياسي الجزائري، ومن محاولة استرجاع بعض ما فقدته الجزائر نسبياً في الثمانينيات والتسعينيات من سيادية في قراراتها الخارجية، لكنها لم تنجح في حماية الصناعة الوطنية وترقيتها بالقدر الذي يُصدّر إنتاجا يساهم في التقليل من الاعتماد على البترول بنسبة تفوق 90%، ولا في دعم الفلاحة إلى الحد الذي يضمن الأمن الغذائي للبلاد.
سيادة الدولة على اقتصادها هي بمثابة سير عكس التيار النيوليبرالي المهيمن على العالم. وقد اعتبرت الباحثة في مركز أبحاث السياسية الخارجية الأميركي فيش ساكتيفال في مقالة عن السياسة الخارجية الأميركية مع دول المغرب العربي، أن العلاقة بين أميركا والجزائر لا تزال بعيدة عن التوازن على غرار العلاقة مع تونس والمغرب، بسبب سياستها الخارجية المرتبطة بمفاهيم «السيادة الوطنية» و«الوطنية الاقتصادية» وعدم قبولها بالوجود العسكري الأميركي في المنطقة. هكذا إذاً يُراد للجزائر أن تقبل التدخل الغربي في المنطقة وتنخرط في «حربه على الإرهاب»، وهي تعلم أن الجماعات السلفية الجهادية في المنطقة (خصوصاً الساحل) «انتعشت» أساساً بعد أن أسقط هذا التدخل ذاته ليبيا وأدخلها في الفوضى.

خاتمة

ما يُمكّن الدولة الوطنية في الجزائر من التحكم في ثرواتها بسيادية واتخاذ مواقف صريحة، تليق بدولة ذات تراث ثوري مجيد، ضد المشاريع الاستعمارية في المنطقة، هو امتلاكها وسائل القوة التي تسند نهجها وتجعلها قادرة على تحمل تبعاته، وهي بالإضافة إلى إقامة اقتصاد إنتاجي متنوع وتحقيق الأمن الغذائي، تعبئة الفئات العريضة المستفيدة من خيارات الدولة الاجتماعية، وتأطيرها ضمن كتلة سياسية واجتماعية منظمة تكون على أهبة الاستعداد لحماية مكتسباتها ومواجهة تحدي المشاريع النيوليبرالية التي تتهددها، تماماً كما واجهت مشاريع الوهابية المسلحة في العشرية السوداء.
* كاتب جزائري