في النّظم السياسيّة السابقة على الحداثة الصّناعية، كالإمبراطوريات والملكيات الإقطاعية، كانت فلسفة الحكم تقوم على الحفاظ على «النظام الطبيعي» للمجتمع، وتعتبر أن هذا الهدف هو سبب وجود السلطة ومبرّرها.
الإمبراطورية العثمانية مثال. يشرح الباحث التركي فاتح إرميش أنّ الدّولة كانت تنظر الى المجتمع ككلٍّ عضوي مكوّن من فئات ثابتة، ويمتلك شرعيته من ذاته. هناك حكّام وهناك محكومون، هناك أعيان وهناك فلاحون، أناس من طوائف مختلفة لها خصائصها وموقعها، وكلّ يعرف مكانه ويلزمه. الخلل والخطر، كما اتّفق المنظّرون، كان في اختلال هذا النّظام، فيفقد الفرد مرجعيته الطبيعية، أو تحاول فئات المجتمع أن تتجاوز مكانها، وتشتبك، فيزول السّلم والإستقرار اللذان يسمحان بتعايش هذا الخليط ــــ وهذا اسوأ ما يمكن أن يحصل. من هنا، كانت غاية الدّولة المعلنة هي الحفاظ على هذا النّظام الإجتماعي وحراسته وإعادة إنتاجه، والرّعايا يدفعون الضرائب للحاكمين بديلاً عن الإستقرار والسّلم اللذين تؤمنهما لهم الدولة.
مع انهيار هذا «المجتمع التقليدي»، أو انفتاح طبقاته على بعضها البعض، لم يعد من الممكن الإستكانة الى «ناموس طبيعيّ للكون»، فهو لم يعد موجوداً؛ والمجتمع يتغيّر باستمرار، والناس فيه تعبر الطبقات صعوداً ونزولاً. أصبحت هناك نماذج متعدّدة لتنظيم معاش النّاس وتوزيع الثروة والسلطة، بحسب الظروفٍ والكتل التاريخية التي هيمنت؛ وكلّ منها ينتج ثقافةً مختلفة، ونمط حياةٍ مغاير، و»مواطناً» من نوعٍ خاص.
كوّنّا، أنا ورفاقي، شبه نظريّةٍ ملخّصها أنّ المجتمعات الإشتراكيّة هي بالإجمال أكثر «وداعةً» من تلك الرأسمالية التنافسية، والعلاقات الإجتماعية فيها أرحب، وتكوين الصداقات أسهل، وأسلوب الحياة مناسبٌ أكثر لناسٍ «مثلنا» (أي لم يرثوا ثروةً ومقياس السعادة والنجاح لديهم هو ليس في أن تنظر الى مواطنيك وأهلك من سيّارة ليموزين). التدريس الرسمي والمؤسسات العامّة التي يمرّ بها الجميع تعوّد النّاس على التّعامل مع بعضهم بسهولة ومساواة، التشارك في الدخل والخدمات ــــ وقلّة التنافس عليها ــــ يخلق روحية تضامن وتعاون (وحين يتكتّل النّاس غاضبين، فهم يتكتلون ضد الدولة والسلطة وليس ضد بعضهم البعض)؛ وغياب الثراء الهائل والفقر المدقع يجعل النّاس أكثر ثقةٍ ببعضهم وأقلّ تخوّفاً. بهذه المقاييس، اوكرانيا أيام الاتحاد السوفياتي هي مكانٌ أفضل من أوكرانيا اليوم، وكندا أفضل من أميركا، والدانمارك أفضل من بريطانيا، والجزائر أفضل من المغرب أو لبنان.
كنت أتمنّى لو أنّ تفضيلي للاشتراكيّة ينبع من قناعةٍ بأنّها حتميّة تاريخية أو «حقيقة» علمية، لا تتطلّب منك ايماناً وشكّاً، ولكنّ الواقع هو أنّ هذه المقاييس، الإنسانية، النسبوية، المنفعية هي ما يغلّب القناعة في داخلي. كما أنّ معاينة البديل الرأسمالي، حيث كلّ شيءٍ، من لباسك الى لهجتك الى الجامعة التي درست فيها، ما هي الّا دلالات على موقعك الطّبقي، وتقضي حياتك فيه في سباقٍ مذعور، وخوفٍ مستمر من الفقر والفشل والإنحدار، وتتلفّت (حتّى لو كنت ناجحاً) حولك باستمرار وقلق لتعرف اين أصبح موقعك على السلّم (وفي بلاد كلبنان ومصر، يصبح العمل المأجور ـــــ قدر الأكثرية من الناس ــــ أشبه بالعبودية، اذ يفعل بك صاحب العمل ما يشاء، وله سلطة فوقك تفوق سلطة الدولة والمجتمع). هذه الحال جعلت الكثير من النّاس يحنّون، لا الى الإشتراكية، بل حتّى الى مجتمعٍ «تقليديّ» سابقٍ للحداثة كنت فيه، على الأقل، تتوقع ما سيحمله لك الغد وتعرف هويتك ومكانك.

جيجك وأخوه العربي

من الأمور المدهشة في الجّدال الحاصل بالعربية حول تقييم التجربة الكوبيّة، وما إن كانت حقّقت نجاحاً أو نموذجاً، والأحكام الكثيرة التي يطلقها الجميع، أنّ أحداً لم يذكر ــــ على حدّ علمي ــــ واقع أنّ كوبا هي من الأماكن القليلة جدّاً في العالم الّتي تمكّنت من حلّ المشكلة العنصريّة بشكلٍ كامل. هذا في جزيرة كانت عبارة عن مجتمع عبيد. لا تفرقة، لا تمييز (رسمي أو غير رسمي)، لا فصل، والسود والبيض يعملون سويّة ويعيشون في مساواة ويتزاوجون بلا عقد. للمقارنة، الدرس الأوّل الذي تعلّمته، في أوّل يومٍ لي في أميركا، كان أن رسم لي أحدهم فوق خريطة لمواصلات واشنطن، دوائر حول خطّي ميترو، وأمرني بصرامة أن لا أخطىء وأتوه، تحت أيّ ظرفٍ، وأستقلّهما أو أنزل في محطاتهما، ففوقهما أناسٌ سود. هكذا تكتشف، مباشرة، أنّ ثلثي المدينة محرّمٌ عليك كـ»ابيض»، وانّك لن تدخلها ولن تعرف ما يجري فيها، وأنّ فيها بؤساً و»عالماً ثالثاً» أقسى من العالم الثالث الذي نعرفه (ولكنّ الثلث الثالث، للأمانة، جميلٌ للغاية والحياة فيه لطيفة ومريحة).
حتّى نكون واضحين، سنقولها منذ البداية: من شبه المستحيل على أيّ عربيّ (أو غير عربي) ينتمي الى الطّبقة الوسطى والنخب الثقافية، ويعيش في الغرب (أو في بلادنا براتبٍ غربي)، أن يكون داعماً حقيقياً للنّظام الكوبي؛ خاصّة اذا ما زار كوبا وجرّب بنفسه معنى قلّة السلع الاستهلاكية، والرفاهيات الغربية، والخيارات المعتادة في الطعام والتسلية. حتّى لو عبّر عن دعمه، فهو يفعل ذلك مكابرةً، أو على طريقة «هذا نظامٌ جيّدٌ لشعبه، ولكنّي لن أعيش فيه». ببساطة، الغرباوي النخبوي لا يمكن أن يجد نفسه في كوبا، أو يتخيّل فيها الحياة التي اعتادها في نيويورك وسان فرانسيسكو، ويعتبر أنها الحياة السعيدة والجيدة (والبعض، وهنا المصيبة، يعتقد أنّها متاحة للجميع).
خير من عبّر عن هذا المنطق كان سلافوي جيجك، في مقابلةٍ سيئة للغاية أجراها اثر وفاة فيديل كاسترو. لم يستخدم جيجك الحجّة الساذجة لليبراليين العرب «كاسترو مستبدّ، انتهى النّقاش»، فهذه دحضها سهل، والليبرالي العربي الموالي للغرب صار في الايديولوجيا كأيّ متعصّبٍ دينيّ، يملك «قناعةً عليا» جوهرية، من المستحيل أن يحوّلها الى مواقف وسياسات «أرضية»، عقلانية وواضحة. بل يفسّر مفهوماً نظريّاً (الحرية والديمقراطية، مثلاً) بمفاهيم أخرى نظريّة (حكم القانون، حرية الرأي، الخ) كلّها «نماذج مثالية»، لا معنى لها خارج سياق تاريخي وسياسي محدّد. ولأنّ هذه النخب ليس لها قاعدة سياسية من أي نوع في بلادنا، ولا تمثّل كتلاً شعبية، فهي قادرة على الإستمرار الى ما لا نهاية باجترار الفكرة «الخلاصية» عن «الديمقراطية»، ومن دون تكوين مواقف سياسية وتاريخية لها مكانٌ في ميدان السياسة والتأثير.
مشكلة جيجك مختلفة، هو قال إنّه زار كوبا، ومشكلته مع النّظام هي أنّه لم يؤمّن رفاهاً ونجاحاً اقتصادياً ومجتمعاً حيويّاً، بل مكاناً فقيراً، متحجّراً ايديولوجياً، هوسه الوحيد، وعزاؤه، هو في تحدّي اميركا. «لا شيء يتحرك» قال جيجك، لا انتاج لا عمل، بل أناسٌ «ينتظرون». كيف يمكنك أن تطلق أحكاماً قاطعة من هذا النّوع بعد أن تزور بلداً لأسبوع؟ ماذا يعني «لا شيء يُنتج» وكيف تحكم بأنّ الشّعب بأكمله لا يفعل غير «الانتظار»؟ هل يقصد جيجك أنّه تحقّق من الأمر ووجد أن لا مختبرات تعمل ولا أدوية تُنتج ولا زراعة ولا فنون في كوبا؟ اذا ما كثّفنا حجّة جيجك، فكلّ ما يفعله هو أنّه يشير الى فقر الكوبيين وسياراتهم القديمة، ويعتبرها دليلاً على فشلهم. ومن دون أي سياقٍ أو تفسيرٍ لهذا «الفقر»، بل هو يضعه مباشرةً على عاتق «النظام» (كالمجلّات اليمينية الغربية، التي كانت تلوم حصار العراق وموت أطفاله على «سوء إدارة النّظام العراقي للإقتصاد»). هذا المنطق تحديداً هو الذي تريد السياسة الأميركية دفعك اليه، وهو جلّ هدف التعذيب الذي تسلّطه على الشّعوب ــــ ومن هنا، فإن السيّدة الكوبية التي سخر منها جيجك، لأنها قالت له إنها تفخر بتحمّل آثار العدوان الأميركي والمعاناة التي يسببها، لا تمثّل منطقاً «بائساً» كما زعم، بل هو الوعي الحقيقي الذي يسمح للشعوب بالتّحدّي، وعبور المراحل الصعبة، والصّمود في وجه معتدين أقوياء. جيجك يطبّق على كوبا المنهجية التي اعتمدتها نخب أوروبية شرقية من أمثاله وأشباه فاسلاف هافل، وأدّت الى تحويل اوروبا الشيوعية سابقاً الى مستنقع. على الهامش: لم اقرأ لجيجك، منذ سنوات، أي تعليقٍ سياسي حول بلاده ومنطقته، بل هو يعلّق حصراً على أي موضوع يهمّ المتروبول الغربي، فيما اوروبا الشرقية، من هنغاريا الى اوكرانيا وبولندا، تشهد أزمات أخطر بكثير من المهاجرين وترامب، وأصبحت نسب معتبرة من المجتمعات فيها تتماهى جدياً مع التراث النازي وتنتظر قدوم فاشية جديدة.

أن ترى كوبا بعينِ ميامي

المصيبة ليست فقط في المنهجية التي يعالج بها هؤلاء «فقر» كوبا و»بؤسها»، المصيبة هي أنّ كوبا ليست فقيرة بأيّ مقياسٍ منطقي! كوبا، حتى بالمعايير الكمية الاقتصادية، هي من أثرى دول الكاريبي (بعد أن كانت، منذ عقدين، تجهد لإطعام شعبها). لو قارنا كوبا بالدومينيكان، مثلاً، التي تماثلها في الحجم وتعتبر «قصة نجاح» للرأسمالية، والأميركيون يصبّون فيها الاستثمارات وهي تشهد مرحلة طفرة هائلة؛ دخل الفرد الكوبي يفوق نظيره في الدومينيكان، حتى بحسب القيمة الدولارية (7200 دولار في السنة مقابل 7000)، وبالقيمة الشرائية الفعلية، فإن الفرد الكوبي يستهلك وينتج ما يوازي عشرين ألف دولارٍ في السنة، مقابل 15 ألفاً في الدومينيكان، و16 الفاً في المكسيك، و14,500 في البرازيل. في الوقت ذاته، فإن الدومينيكان «الديمقراطية والمزدهرة» تخوض ما يشبه حرب تطهيرٍ عرقيٍّ رسمية ضد اللاجئين من هاييتي وسمر البشرة. وإذا ما أخذنا في الاعتبار الاختلاف في توزيع الدّخل بين البلدين، حيث في الدومينيكان نخبةٌ بيضاء ثرية وفي كوبا المداخيل متقاربة، تفهم حجم الفارق بالنسبة الى سواد الشّعب، وتفهم أنّ الموقف المتعالي على كوبا والكوبيين ليس خطأً فحسب، بل هو حقير. كلّ المشكلة لدى جيجك وأشباهه العرب ومصدر خلاصاتهم عن بؤس كوبا، على ما يبدو، هي أنّ البلد لا يملك أحياءً أو مدينةً للنخبة والسياحة والمنتجعات (كما في بيروت أو الدومينيكان أو اسطنبول)، يجتمع فيها الأثرياء والبرجوازيون ويبنون مجتمعهم المعولم الأليف. بل انت في كوبا مجبرٌ على السير بين «الشعب» والناس اللاتين «العاديين»، فتكون الصدمة ــــ وهي تتعلّق، اذاً، بهم وبشخوصهم وليس بكوبا (بالمناسبة هنا، المثقّف العربي الذي يرثي كاسترو ويدّعي حبّه وتقديره «رغم» أنّه كان «مستبدّاً» وأنّ «الثورة فشلت»، هو اسوأ وأكثر خسّةً من ذاك الذي يهاجمه ويسفّهه مباشرة، فأنت هكذا تمرّر كل ايديولوجيا العدوّ عن كاسترو تحت زعم رثائه، فتهينه باسوأ طريقة وانت تدّعي مدحه).
من أطرف الحجج التي خرج بها «الديمقراطيون» العرب ضدّ كاسترو هي فكرة أنّه لا يجب إعارة كثيرٍ من الإهتمام والتّقدير لأمورٍ مثل تعليم الشعب، وتأمين الرعاية الصحية اللائقة، وتوفير الأمن الغذائي للجميع، فهذه ــــ يقولون ــــ «تفاصيل» أمام مسائل جوهريّة كالانتخابات وتداول السّلطة، وهي يسيرة التحقيق لا فضل للنظام بها. لو كانت يسيرةً، فلماذا لم تتحقّق في فنزويلا، ولا في المكسيك، ولا في نيجيريا؟ وهذه كلها دولٌ نفطيّة (بينما كوبا ممنوعة عن استغلال النفط في مياهها) ولا تعاني حصاراً وحرباً اقتصادية تشنّها أقوى دولةٍ في العالم. قبل ذلك كلّه، ما هو أصلاً الهدف من الانتخابات وتبادل السلطة والنّظام السياسي إن لم يكن ضمان الأمان والكرامة للمجتمع؟ ليس صحيحاً بالطبع، كما يدّعي هؤلاء، أن النظام في كوبا قد خلق «اوليغارشيا»، بل مشكلتهم معه، حقيقةً، هي أنّه لم يخلق اوليغارشيا وطبقة ماليّة ريعيّة تموّل المثقفين والإعلام، والّا لعاملوا كوبا اليوم كما يعاملون قطر والإمارات (لا يجب أن ننسى سردية المثقف العربي الذي يبدأ نقده لكاسترو، دوماً، باقتباسٍ الكوبيّ الذي التقاه ذات يومٍ وأخبره بأنّه يكره النظام ويشعر بالأسى ويبحث عن الهجرة. ما هذا المنطق؟ لو صادف أن الكوبي الذي عرفته كان يعشق كاسترو ويؤيّده، فهل كنت ستمدحه اليوم؟ هل يحاول هؤلاء استثارة «ثورة ثقافية» ضدّهم؟).

خاتمة

مهما يكن، وخارج هذا النقاش، فإنّ لكاسترو في يوم رحيله ميزة لا يحوزها الكثير من البشر. لا يمكن لأحدٍ منّا أن يتخيّل مقدار السّعادة والرّضا التي اكتنفت هذا الرّجل العظيم في سنواته الأخيرة: هو يموت بعد أن نجحت الثورة واستقرّت وبنت دولة، وهو قد اجتاز أصعب المراحل والاختبارات، ولم يتنازل بشيءٍ ولم ينهزم أمام من أراد إخضاعه وإذلال شعبه؛ ثمّ مات بعد ذلك كلّه في سريره منتصراً محاطاً بالإجلال. هل يمكن لك أن تتخيّل نهايةً أفضل منها؟ هذا الشعور الحقيقي بالسّعادة والانتصار لا يصل اليه الّا الثائر ومن يتحدّى الهيمنة، ولا يمكن أن يعرفه من يسفّه كاسترو ويشمت به ويقف مع أعدائه. رؤساء أميركا لا يبنون تاريخاً ولو فازوا في عشر حروبٍ، بينما كلّ ما على الثائر فعله هو أن يصمد حتّى ينتصر ويصنع التاريخ. نيكسون مات كمداً، وآل كلينتون سيتقاعدون وسط الإذلال والخيبة، ولا أحد في أميركا اليوم يعرف من هو جيمي كارتر. هم كانوا مجرّد موظّفين، ولو وصلوا الى رأس المؤسسة. هذا درس كاسترو الحقيقي، في حياته وفي موته، وهو أساساً عن معنى السّعادة قبل السياسة؛ حريّ أن ينتبه الى هذه المعادلة من غيّر مبادئه وتنازل وتراجع وتسرّب اليه اليأس، واعتقد أنّه بانقلابه يحوز غنماً فيما هو، في الحقيقة، يرتّب لنفسه سرير شيخوخةٍ من الإحباط والبؤس.