ذات يومٍ قبل 1438 عاماً من الآن، قال الكبير الأكبر: «إقرأ».من يومها قرأ كثيرون. وكتب كثيرون. تناوبت مراحل أدبية ومدارس وعصور كثيرة: فكتب البشر عن الله والوجود، عن الطبيعة، عن الكون، وكتبوا عن البشر.
اليوم، يكتب البشر، وتحديداً العرب منهم، عن هزائمهم وعن أوجاعهم. الوجع كبيرٌ في هذه البقعة من الأرض، ومتراكم.
يكتبون عنه، ويقرأون.
إقرأ.
إقرأ باسم جميع الندوب في روحك. باسم كل الأوطان التي خذلتك وصور الآباء والأبطال التي تهشمت أمام عينك. باسم العوالم التي انهارت والجنّات المفقودة التي ما زلت تبحث عنها. باسم الخيبات التي أورثتك إياها أناشيد أنشدتها وهتافات هتفتها.
واكتب نكاية في هذا العالم العبثي الذي تعجز روحك عن استيعاب عبثيته. هذه هي الكتابة التي تليق بهذا العصر. هذه هي الكتابة التي تشفي غليل ووجع كتّابنا، وخاصةً الشباب منهم. هذه هي الكتابة التي نبحث عنها، وهذه هي الكتابة التي ننشرها في «هاشيت أنطوان/ نوفل»، لكتّابٍ شباب يستخدمون اللغة عصباً، سكيناً حاداً، نصلاً يجزون به رأس الخيبة التي ورثوها عن آبائهم على هذه الأرض الجريحة.
أسئلة كثيرة يعاد طرحها في نص اليوم الذي يصل أيادينا في الدار. نراها بين سطور كتّابها في كلّ مخطوطة.

أسئلة عن الهوية وعن اللغة وعن المُثل العليا والقيم التي لقّنونا إيّاها كمسّلمات. كلّ نصٍّ مختبر، وبيروت مركز يستوعب النزعات التجريبية التي لا تقدُّم من دونها، والأسئلة التي لا تطوّر من دون طرحها. بيروت مدينة تعيد إطلاق الكاتب المخضرم وتصدر الكتاب الأول لمن يستحق أن يُسمَع صوته. بيروت، رغم ما انتُزع منها من دور، لأسباب كثيرة من بينها تقلص عدد القراء في هذه المساحة من المحيط إلى الخليج، لا تزال تُصدر وتطلق. ونحن في «هاشيت أنطوان»، لا نزال نؤمن بدورها هذا رغم جميع الصعوبات على مستوى صناعة الكتاب. هكذا، ترانا ننشر الوجع العراقي في «يوليانا» (نزار عبد الستار)، والربيع اليمني المجهض في «بئر زينب» (ندى شعلان)، والنزيف السوري في «اختبار الندم» (خليل صويلح) و«الموت عمل شاق» (خالد خليفة) و«عتبة الباب» (سندس برهوم)، واللغة الجديدة لكتّابٍ «ضلّوا» طريقهم إلى الكتابة على صفحات فايسبوك مثل عبود سعيد ومحمد سعيد، ونخاطب ضمير اليهودي التائه في مجازر صبرا وشاتيلا في «وارسو قبل قليل» (أحمد محسن). لم يعد للكتابة الرومانطيقية من مكان في عالم اليوم. الكتابة اليوم في العالم العربي صرخة. صرخة ألم. صرخة يأس. صرخة تمرّد. صرخة ثورة. صرخة غضب. صرخة في وجه التخلف والعصبية كحالة عامة. صرخة في وجه ذلك الوحش الظلامي المتربص في الأزقة، والمؤامرات العالمية المحبوكة بنظافة. الكتابة اليوم هي تأثير كل ذلك على المصائر الشخصية الصغيرة: على صبي يحب فتاة تفصله عنها أسوار شائكة وضعها آخرون. هكذا، بهذه البساطة.
أمام واقع مأزوم كواقعنا، ينتج الأدب، وهذا ما نرصده في إصداراتنا بشكل عام، أو حتى في جميع النصوص التي تُعرَض علينا للنشر على نطاق أوسع: كتابة تنزع نحو الفانتازيا والعوالم المتداخلة السحرية التي تمثّل عبثية الواقع المحيط ومعطياته المحكومة بالعشوائية، أو كتابة تُغرق في الواقعية التهكمية والسخرية السوداء.
ونحن لا نزال نذوب أمام النوعين، والأنواع الأخرى. لا يزال النص الجميل يفتننا. لا نزال نؤمن به، ولا نطلب سواه من كاتبه. نناطح لطرحه في سوق يتقلّص يوماً بعد يوم للأسف، وسلاحنا في ذلك شغفنا فقط لا غير. لا نزال نفرح باكتشاف موهبة جديدة تلاعب اللغة، تحدّثها من دون أن تهشّمها، تنفض عنها الغبار ولا تستهين بها، موهبة تتقن تحديث الخطاب شكلاً ومضموناً، أصوات جديدة تحتاج إلى أن تعبّر عن نفسها بأدواتها المستحدثة. نحن، جميع الناشرين، وليس فريق «هاشيت أنطوان» فحسب، مغامرون (يفوق عددنا الخمسة والحمدالله)، قد نكون واهمين، لكنّه شأن كلّ الحالمين الذين لا تستقيم حياةٌ من دونهم.
* محرّرة في «دار هاشيت أنطوان»