كانت جاكلين اسبر (مواليد عام 1959 ــــ جبرايل، عكار)، في نهاية سبعينيات القرن الماضي، فتاة «عادية»، تعيش مع أهلها في منطقة الاشرفية في بيروت، وتدرس الحقوق في الجامعة اللبنانية.في تلك الفترة، استفزّ الفتاة العكّارية كيف أن العدو الاسرائيلي، الذي يقصف قرى الجنوب اللبناني وبلداته ويمعن فيها تدميراً، والذي ينطلق من أرض اغتصبها من أهلها الفلسطينيين، هو نفسه من يدعم القوى المهيمنة على المنطقة حيث كانت تعيش.

وفيما كان اللبنانيون يقاتل بعضهم بعضاً، بل ويستعين بعضهم بالعدو، كانت «ريما» ـــــ اسم جاكلين الحركي ــــ ورفاقها يرون أن للصراع وجهة أخرى، بدءاً من ثورة الصيادين في صيدا وأحداث معمل غندور، مروراً بترسيخ الأميركيين للشرخ الطائفي بعد حرب السنتين، وجلاء الدور الفرنسي في دعم الكيان الصهيوني وتسليحه (نووياً وغير نووي)، تشكّل الوعي اليساري لـ»ريما» ورفاقها. «كان لا بد من أن نساهم في إسقاط قناع الأم الحنون وفضح وجهها الحقيقي للعلن». وبالتالي، كان لا بد من ترجمة كل هذه الثورة الكامنة بشكل عملي. تزامن ذلك مع «ظاهرة وديع حداد» الذي تأثرت به «ريما» ورفاقها واحتذوا بنموذجه، معتمدين على تكتيكات التوباماروس، ومتأثرين أيضاً بالنموذج الذي قدمته المقاومة الشعبية الفيتنامية.

قررنا أن نضرب العدو في المكان والزمان اللذين نحدّدهما بعدما كان هو من يقرر أرض المعركة
فكان القرار: «سنضرب العدو في المكان الذي نقرره ونحدد زمانه، في حين كان، كل الوقت، هو من يقرر أرض المعركة سابقاً، من لبنان الى فلسطين الى خلق الشرخ العمودي بين الفئات اللبنانية»، بحسب قولها.
اختاروا إذاً أن يكونوا «وراء العدو في كل مكان». حدّدوا أرض المعركة، وسافروا إلى حيث سيؤلمون العدو الصهيوني وأعوانه الأميركيين والفرنسيين الذين يساندونه في جرائمه. كل شيء دُبّر ورُتّب وخُطّط في الخارج، في الشقة التي استؤجِرت باسمها في شارع لاكروا في باريس (ثم لاحقاً في ليون).
لم تكن عملية اغتيال «الملحق الأمني» في سفارة كيان العدو في باريس، ياكوف بارسيمنتوف، أولى العمليات التي نفذتها «ريما» ولا آخرها، لكنها حتماً أهمها. سبقت التنفيذ عملية رصد استمرت أسبوعين تقريباً، تضمنّت التدقيق في حركة «الملحق الأمني» الصهيوني. وهذا ما كتبه العدو الاسرائيلي بنفسه على الصفحات الاولى لجرائده. وحدد نهار التنفيذ في 3 نيسان 1982.
مشت «ريما» إلى ساحة المعركة بتصميم وشجاعة قل نظيرهما، بحسب رفاقها. حملت مسدساً تشيكياً صغيراً أوتوماتيكياً من عيار 7.65 ملم، لم تختره هي بل «هذا ما كان متوافراً حينها» بحسب ما يقول رفاقها (وهو للمناسبة المسدس نفسه الذي صُفّي به الملحق العسكري الاميركي تشارلز راي في 18 كانون الثاني 1982 في العاصمة الفرنسية). اعتمرت «بيريه» بيضاء واتجهت إلى منزله في جادة «فيرديناد بويسون». كانت عطلة نهاية الاسبوع، وكان بارسيمنتوف خارج منزله في نزهة مع عائلته. انتظرته في الحديقة الصغيرة قرب المنزل. قرابة الظهر وصل. ركن السيارة واتجه مع أفراد عائلته الى المصعد. ركضت ريما إليه. فتح باب المصعد. انتبه لها، وأراد أن يهجم باتجاهها، لكنها كانت أسرع. نظرت في عينيه وأفرغت خمس طلقات في رأسه وصدره فهوى أرضاً. تأكدت من أنها حققت ما أرادته، ثم عادت أدراجها سريعاً. لحق بها ابنه، وكان يمكن أن يأخذ «نصيب» والده نفسه، لكن هدفها لم يكن عائلته. «ارجع فوراً وإلا أطلقت النار!» قالت لآفي بارسيمنتوف. فاستسلم الأخير وهرب.
تبنّت «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية» العملية في الليلة نفسها، في بيان أصدرته بالفرنسية (انظر الإطار المرفق).
بدأت السلطات الفرنسية حملة واسعة للبحث عن «الفتاة ذات القبعة البيضاء». لكن أجهزة الاستخبارات الفرنسية والموساد الاسرائيلي لم تعثر لها على أثر، رغم أنها بقيت بعد العملية لأكثر من شهر في فرنسا، قبل أن تعود إلى لبنان لمتابعة عملها مع الفصائل.
بعد ذلك، لم تكن حياتها بالسهولة التي يعيشها أيّ منا.

كيف فينا ما نحب السيد؟ نحن مع كل من يحمل السلاح ضد العدو أمس واليوم وغداً

مذّاك، كان على جاكلين أن تهتم لتفاصيل التفاصيل في تحركاتها، وأن تبقى أقوى من كل أجهزة الاستخبارات التي تحاول اقتفاء أثرها. لم تستقر في منزل واحد أو منطقة واحدة. كانت هناك «بيوت آمنة»، لكن انتقالها الدائم بحركة مدروسة كان يكلفها الكثير من الأرق اليومي والحسابات الدقيقة. وبعد صدور الحكم الغيابي بحقها من قبل المحكمة الفرنسية في هذه العملية تحديداً، أصبحت السلطات اللبنانية أيضاً تشكل ضغطاً إضافياً عليها.
لم يكن نضال «ريما» اليومي مقتصراً على تحدّي الموساد والـ»سي آي إيه» وغيرهما والتخفي كي لا يتمكنوا منها، بل كان نضالاً في لقمة العيش أيضاً. ففي بلادنا، لا مكان لمناضلة قاتلت العدو الاسرائيلي في بنية الاقتصاد اللبناني. اتكلت «ريما» على دعم بسيط من بعض الرفاق القادرين، من دون أن تذل النفس لسلطة أو تبغي منصباً أو جاهاً أو حتى شكراً. ولم تنثنِ، بل كانت حتى أيامها الأخيرة تفكر في أهداف عمليات جديدة ضد العدو. وكان عزاؤها الوحيد الذي تجهر به أمام من يعرفونها، أنها في ظل حضور حزب الله والسيد حسن نصرالله في هذا البلد تشعر بأمان أكبر. «كيف فينا ما نحب السيد؟ نحن مع كل من يحمل السلاح ضد العدو الاسرائيلي أمس واليوم وغداً».
الأحد الماضي، رحلت «ريما» بهدوء، لتسدل الستارة على واحد من أهم الملفات التي تبنّتها «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية»، وشغل أجهزة الاستخبارات الدولية، من الموساد الاسرائيلي الى «سي آي إيه» والاستخبارات الفرنسية وغيرها.




بيان تبنّي اغتيال بارسيمنتوف

نحن، الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، نعلن إلى كل الذين يدينون الإرهاب، وينشطون لأجل إلغاء الاستغلال المجتمعي والحروب، أننا أعدمنا ياكوف بارسيمنتوف.
إن الإعلام الامبريالي والحكومات التي تدعم الإمبريالية، مثل الحكومة الفرنسية، يبكون على "الإرهاب". لكن من هم الإرهابيون؟
هم الذين يقتلون شابا في الضفة الغربية لأنه يقاوم ضم وطنه للكيان الاسرائيلي. هم الذين يقصفون المدنيين في الجنوب اللبناني، هم الذين يقتلون بشكل أعمى ثم يتجرأون بوقاحة على طلب وقف إطلاق نار زائف.
نحن نهاجم من ينظمون هذه المجزرة بحق الشعب الفلسطيني.
نحن نحمي حياة الابرياء حتى لو كان الثمن أمننا الشخصي.
منذ سبع سنوات ولبنان تحت الحرب. منذ سبع سنوات، وتحت غطاء مواجهة "المتطرفين
الفلسطينيين"، تدمر الإمبريالية كل ما هو تقدمي في لبنان.
هو حقنا أن ندافع عن أنفسنا.
هو حقنا أن نهاجم الامبريالية أينما وجدت، وخاصة حيث تحظى بدعم الحكومات القائمة.
سنواصل حربنا على الامبريالية حتى النصر.
فلتسقط الامبريالية الاميركية ومرتزقتها الاوروبيون.
النصر او النصر
الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية
3 نيسان 1982




أبرز عمليات الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية

ــــ 12 تشرين الثاني 1982 محاولة اغتيال كريستيان شابمان، القائم بالأعمال في السفارة الأميركية في باريس قرب منزله في شارع بول ديشانيل.
ــــ 18 كانون الأول 1982 إغتيال الليوتنان كولونيل شارلز راي ، الملحق العسكري المساعد في السفارة الأميركية في باريس قرب منزله في بولفار إيميل أوجيه.
ــــ 3 نيسان 1982 إغتيال ياكوف بارسيمنتوف الملحق الأمني الإسرائيلي في السفارة الإسرائيلية في باريس قرب منزله في جادة فيرديناد بويسون.
ــــ 21 آب 1982 محاولة اغتيال رودريغ غرانت، المستشار التجاري في السفارة الأميركية عبر سيارة مفخخة في افونو بوردونيه.
ــــ 17 أيلول 1982 محاولة اغتيال ديبلوماسي إسرائيلي أمام الليسيه كارنو شارع كاردينيه في باريس.
ــــ 26 آذار 1984 محاولة إغتيال روبيرت هوم، القنصل الأميركي في ستراسبورغ.