تركت نضال رسالة مسجّلة على «الواتساب»، وكان صوتها ينضح بتلك السعادة الطفوليّة التي تشتهر بها: «العرض جيّد. كلّن كتير مناح. روجيه ممتاز. نشالله تكون حبيت». إلتقينا ليلة الخميس عند باب القاعة الرئيسية في «مسرح المدينة»، مسرحها، حيث جئنا نتفرّج على «الملك لير».
النص الشكسبيري الشهير الذي يقدّم هنا منذ أسبوعين، مع حفنة من الممثلين البارزين، لبننته سحر عساف (مع ندى صعب ورافي فغالي) بلغة أنيقة قادرة على استيعاب الفجاجة، وأدت فيها دور كورديليا ـــ الابنة العادلة ـــ وأخرجتها بالاشتراك مع راشيل فالنتاين سميث زميلتها البريطانيّة من فرقة THE FACTION. نضال الأشقر عادت لتوّها إلى بيروت، ما يفسّر مشاهدتها المتأخّرة للعمل، أما أنت فتواخذ نفسك: كيف انتظرت كل هذا الوقت كي تشهد على لحظة نادرة، قد لا تتكرّر بسهولة، في الحياة الثقافيّة والمسرحيّة للمدينة؟
أكثر من عرض مسرحي، كنا على موعد مع اللذة الصرفة. ليس من السهل تقديم شكسبير. وليس من السهل تقديمه في بيروت. لم يعد أحد يريد تقديم شكسبير في بيروت. فكيف حين تعاكس التيّار وترفع التحدّي، وتفعل بأدوات فنية متقنة، ولا يجافيك الجمهور؟ لا بد من أن نذكر أن هذه المحطّة الشكسبيريّة، سبقتها مبادرة جلال خوري وميراي معلوف ورفعت طربيه (رفعت نلتقيه هنا، متألّقاً كعادته، في دور غلوستر). جمع الثلاثي، قبل أشهر في «البستان»، مونولوغات وحوارات من أهم أعمال المعلّم الرائي، في توليفة مشهدية مميّزة، اعادتنا إلى متعة المشاهدة المفقودة أو المفتقدة في بيروت. والآن تأتي سحر عساف لترفع التحدّي، وتذكرنا أن شكسبير معاصرنا (بالإذن من يان كوت). بأنّه كاتب «سياسي» بإمتياز، و«لير» قبل سائر أعماله، نص راهن في لبنان. فسحة للتأمّل ـــ على الطريقة اللبنانيّة ـــ بشهوة السلطة القاتلة وهشاشة الذات البشريّة، وبالخيانات الأخلاقيّة والفساد الروحي، وبلحظة الانهيار الانسانيّة بامتياز، وبالجنون كملاذ أخير في مواجهة ظلم العالم… مجرد العودة إلى شكسبير، من خلال شغل فنّي واخراجي متقن، يحمله ممثلون كبار، حدث ثقافي كبير. يكفي الجهد المبذول لايجاد معادلات لهذه اللغة الشاعريّة والفلسفيّة المكثّفة، بالعامية اللبنانيّة وليس بالفصحى. نتوقّع شكسبير دائماً بالفصحى، مع كثير من الاطناب في اللفظ والاداء واصطناع المشاعر. لكن ماذا لو عرّيناه، أحييناه، اعدنا خلقه على مقاساتنا؟ ماذا لو رجعنا إلى مناهل الفرجة الشعبية التي طلع منها قبل خمسة قرون؟ ذلك هو الرهان الاخراجي الذي قام عليه «لير» اللبناني.
تقوم مسرحيّة «الملك لير» على حفنة من الممثلين الاستثنائيين من شتّى أجيال المسرح اللبناني. هناك فؤاد يمين (إدموند) كما لم ترونه من قبل لا في السينما ولا في التلفزيون، وإيلي يوسف (إدغار)، وبشارة عطالله (كِنت)، وسحر عساف كما أسلفنا. وهناك على وجه الخصوص اللورد رفعت طربيه أحد كبار الجيل الوسيط عند ذروة السيطرة على فنّه. والقائمة تطول. لكن «الملك لير» مسرحيّة روجيه عسّاف بامتياز. هل تدري سحر عسّاف أيّة هديّة قدمتها إلى المسرح اللبناني، وقدّمتها إلى روجيه نفسه؟ هل تدري ما معنى أن يعود المعلّم إلى الخشبة، ليؤدّي دور البطولة في مسرحيّة «كلاسيكيّة»؟ مؤسس «مسرح الحكواتي» هو صاحب نظريّة القطيعة مع المسرح الغربي، وفي الآن نفسه أحد أهم الملمّين به ومؤرخيه كما يشهد مشروعه الطويل النفس بالعربيّة عن «الآداب»، وقد صدر جزؤه الأوّل بالفرنسيّة هذا الصيف بعنوان «المسرح في التاريخ» عن L’Orient des Livres. كل أعماله في العقود الماضية تنتمي إلى أنماط بديلة للفرجة. ما أعطى المسرح العربي بعض أغنى تجاربه ربّما، لكنّه حرمنا من متعة مشاهدة روجيه الممثّل.
روجيه عسّاف، مؤدياً لير، لحظة نادرة في سجلّ المسرح اللبناني. ربّما يجب أن نعود إلى «كاليغولا» أنطوان ملتقى في راشانا الستينيات لنجد ما يوازيها. لقد قبِل أن يعود فيلعب اللعبة أخيراً. لا نظن أن العمليّة كانت سهلة. حسب النظرة السائدة، روجيه يصلح ممثّلاً بريختياً (نقول بريخت ونفكّر في مايرهولد). ممثل كوميديا ديلارتي. أداؤه خارجي، ميكانيكي، قوامه العلاقة التغريبيّة مع الجمهور. وها هو أمامنا ممثل شكسبيري بامتياز. استدرجته سحر عساف وشريكتها الى هدنة مع ستانيسلافسكي. فإذا به يندمج في دوره، يغوص إلى الداخل، ويتقمّص بعمق شعور شخصيّة الملك المخلوع، المرمي على قارعة الحياة، ليكتشف الهامش والحضيض والعالم السفلي، ويتجرّع السفالة البشريّة وظلم ذوي القربى. الملك الخرف، المجنون، المجروح، الساخر. روجيه في مشهد العاصفة الذي لا ينسى، أو مشهد لقاء كورديليا. هكذا عاد للمسرح معنى، وللتمثيل معنى. يجب أن تتكرر هذه التجربة بسرعة. نعم ست نضال. روجيه كان رائعاً. هذا الاحساس لم يراودني من دهر. نعم المسرح اللبناني بألف خير.

(*) عرضان أخيران الليلة وغداً، في «مسرح المدينة» (الحمرا) ـــ للاستعلام: 03/020092 ـــ العمل من تقديم «مبادرة العمل المسرحي» بالإشتراك مع فرقة THE FACTION لندن، بدعم من لجنة الاحتفالات بـ 150 عاماً على الجامعة الأميركيّة في بيروت، إنتاج الاكاديمي الأميركي روبرت مايرز الذي أعطى الكثير للمسرح العربي.