يقدّر الدخل القومي للإمارات العربية المتحدة بحوالى 49 بليون دولار، وحجم الاستثمارات السنوية الواردة الى الإمارات بحوالى 11 بليون دولار. وهذه الأرقام ليست بعيدة عن حجم الدخل القومي اللبناني، كذلك حركة الأموال الواردة إليه، علماً بأن الإمارات بلاد منتجة للبترول الذي يمثل حصة كبيرة من الدخل القومي، بينما لا يشكل بند البترول أي مدخول للبنان حتى الآن رغم الثروة البترولية والغازية الكامنة حسب الدراسات في أرضه ومياهه الإقليمية.
لا نقوم بهذه المقارنة لتخفيف أو تثمين دور أي من البلدين، لبنان والإمارات، بل لنقول إن للبنان مستقبلاً واعداً لو شرع في استخراج الغاز والبترول بالطبع، ولكن هذه العملية سوف تستغرق بعض الوقت. ولو تمت غداً فسوف تزيد وتكثف من اتجاه الاقتصاد اللبناني الى الريع والاعتماد على التحويلات الخارجية وهو اتجاه لم يعد محبذاً اليوم لأسباب عديدة لا مجال لتبيانها في هذا المقال، عنوانها البطالة وعدم التوازن بين الكتلة المالية والإنتاج، فالتضخم وانكشاف الاقتصاد على العوامل الخارجية.
فكرة الانطلاقة الجديدة وعنوان هذا المقال هو تحويل الضعف الهيكلي الخدماتي في الدخل القومي اللبناني الى مكمن قوة وثبات ألا وهو الشروع في اتفاقيات اقتصادية واسعة مع سوريا والعراق، قاعدتها مبدأ التعامل بالمثل لفتح الأسواق اللبنانية والسورية والعراقية بعضها على بعض والتعامل بالمثل في جميع الحريات الاقتصادية بما فيها الطيران المدني وحرية الملكية الفردية أو المؤسساتية ودخول وخروج الأشخاص والأموال الخ...
قطاع الخدمات اللبنانية المضخم في البنية اللبنانية سوف نحاول توزيعه على اقتصاديات سوريا والعراق بما فيها من المنفعة الاقتصادية على البلدين، حيث قطاع الخدمات لا يزال ضعيفاً في البلدين. كذلك فتح الأسواق بين البلدان الثلاثة سوف ينشط الزراعة والصناعات التحويلية الزراعية والكيميائية اللبنانية وشركات التكنولوجيات ويفتح سوقاً واسعة للسياحة والسفر، فمطار بيروت هو نموذج جيد لمطار وإدارة ناجحة بالإمكان تطبيقها في المطارات السورية والعراقية، كذلك توسيع أعمال الطيران اللبناني من طائرات نفاثة وعادية وإدخال خدمة الطائرات العمودية، ناهيك عن توسيع شبكة المصارف وفروعها في العراق وسوريا. كذلك أن يتوغل الاستثمار اللبناني في الصناعات الذكية من الجيل الثالث من الهندسة المعمارية الى الإعلان، الى علم البرامج والإلكترونيات المعقدة، كذلك صناعة المأكولات والضيافة وخدمة السياح وخدمة المطارات والموانئ والنقل.
لم يتمكن لبنان من تغيير بنيته الاقتصادية المعتمدة على الريع والخدمات منذ استقلاله، بل تضخم قطاع الخدمات والريع بشكل مطرد وانخفض الإنتاج الزراعي والصناعي في حصتهما في الدخل القومي وعمت العطالة وسافر شباب لبنان وكتلة من المثقفين والنخب الى الخارج.
إن تصحيح الخلل وتحويل الاقتصاد من الريع والخدمات الى الإنتاج والرسملة الصناعية والزراعية يحتاج الى توسيع السوق اللبنانية لسوق موحدة لبنانية سورية عراقية من خلال الاتفاقات السياسية لتحفيز الرأسمال اللبناني في الشروع الى الاستثمار وتوزيع الخدمات على رقعة اقتصادية أوسع تمكن الاقتصاد اللبناني من النمو المتوازن والسريع، بل بالإمكان القول إن هذا النمو سوف يتخطى عتبة الـ 5% سنوياً لو نجحنا في ذلك.
إن القرار هو قرار سياسي بحت يعود تحقيقه الى موافقة البلدان الثلاثة عليه وإن هذه الموافقة سهلة اليوم لأن اقتصاديات البلدان الثلاثة تعاني من مشاكل الحروب وعدم توازن بنيوي عميق وسوف تعم الفائدة على البلدان الثلاثة في حال اتفاقها بدون إجحاف في حقوق أي من البلدان الثلاثة الاقتصادية والحياتية.
لو تمكن العهد الجديد في لبنان من أن يخطو هذه الخطوة الجبارة لمكَنّه أيضاً ضم بلاد أخرى الى هذه المعاهدة كالعبور بها الى دول الخليج، ونخص السعودية لأنها سوق واسع وواعد واستراتيجي للتكامل الاقتصادي بين البلدين، وسابقة الأعمال التاريخية بين لبنان والسعودية عميقة ومزمنة في المقاولات والخدمات والصناعة والبرمجة والهندسة والإعلان. ولو جرى ذلك على خطوات متصاعدة، فسوف يكون هذا الاتفاق مع السعودية مكملاً ومحفزاً لبلدان أخرى للانضمام اليه كمصر والإمارات.
وجب علينا كلبنانيين عهداً وشعباً وجمهورية أن نقوم بمراجعة كاملة لمساراتنا الاقتصادية بغية بناء استراتيجية اقتصادية تسد مكامن الضعف وتستفيد من مكامن القوة، ومجالنا الطبيعي هو سوريا والعراق والخليج ومصر وجميع البلاد العربية.
لا يجوز، ولا يتحمل لبنان واقتصاده مزيداً من الريع والخدمات، حيث ابتدأ الريع بتشكيل عبء على الإنتاج الزراعي والصناعي. الفوائد الريعية تأكل القيمة المضافة الإنتاجية، وتحويل مسيرة الاقتصاد اليوم يعتبر إنجازاً استراتيجياً كفيلاً بتغيير كامل البنية الاقتصادية والاجتماعية، وسوف يعم النفع الهامشي والفعلي على كل البلدان أعلاه لو اتّحدت في خطوات سياسية اقتصادية لمصلحة شعوبها.
*وزير الدولة اللبناني لشؤون مكافحة الفساد
(أرسل المقال إلى الأخبار بتاريخ 14 كانون الأول الجاري)