يصف مؤرّخٌ روماني، رافق سفينةً عبرت طريق البخور القديم، من البحر الأحمر الى مرفأ المُخا في اليمن ثمّ الهند قبل العودة الى مصر، ذكاء وتنظيم اليمنيين الحميريّين، الذين كانوا يديرون تجارة البخور ويزوّدون بها القوافل والسّفن.
السّفن الرومانية (وهي قلّة على طريق البخور، فأكثر من سلك طريق البحر الى الهند يومها كانوا العرب، مستخدمين سفينة «الداو» التقليدية، حتّى أنّ كلمة «مونسون» أصلها عربي، تصف موسم الرياح الصالحة للإبحار شرقاً)، كانت تحمل بضائع من المتوسّط ــــ كزيت الزيتون وخمر العنب ــــ ثمّ تنزل في المُخا، حيث تبيعها للتجار المحليين وتملأ السفينة، بدلاً منها، بالبخور الثمين، الذي كانت له حاجة في طقوس الدين والدفن في كلّ العالم القديم، ولكنّه لا يُنتج الا في اليمن والقرن الأفريقي. بعد ذلك، تتجه السفينة الى الهند، حيث تبيع البخور في مرافئها وتشتري بالمقابل ذهباً ومنسوجات وفراء ومنتجات الشرق المختلفة، وتعود بها الى المُخا، حيث تحمّل المزيد من البخور لبيعها في موطنها الأصلي، بعد نقل الحمولة الى اوروبا عبر مرافىء الاسكندرية وفينيقيا.

مدن الصحراء

خطّ المؤرّخ الروماني المجهول الإسم «بيريبلوس»، أي دليلاً بحرياً كان يكتب غالباً باليونانية، ويصف للبحّارة طرق التجارة والأنواء والمسافة بين المرافىء وقوانين كلّ بلدٍ ومنتجاته. يقول «بيريبلوس البحر الأحمر» (يعتقد أنه كتب في القرن الأول قبل الميلاد) أن الحميريّين في المُخا هم تجّار دهاة، ايّاك أن تفكّر بخداعهم ــــ كما كان يحصل مع الأقوام البدائية ــــ وعرض بضائع رومانية غريبة عليهم، ولكنها رخيصة وشائعة في موطنها، فهم بفضل تعاملهم المستمرّ مع تجّار وبضائع من أرجاء العالم أصبحوا «صيارفة عالميين»، يعرفون القيمة النسبية لكلّ سلعة وكم تستحقّ مقابلاً من البخور. كما أنّهم يمسكون بتجارة هذه المواد الثمينة عبر شرق افريقيا بيدٍ من حديد. الحميريون، كالأنباط والتدمريّون، هم في الأصل بدوٌ عرب، أصبحوا أثرياء بسبب مرور طرق التجارة في أرضهم، وبفضل ذكائهم وخدمتهم لاقتصاد التبادل والسفر، فتحكموا بخطوط النقل في البرّ والبحر، وبنوا مدناً وممالك (مع أنّهم لم يسكنوا المدن دائماً، وهناك نظريّة تقول بأنّ البتراء كانت فعلياً مدينة معابد واحتفالات ومدافن)، وظلّت أوابدهم باقية الى اليوم.
الأنباط كانوا ايضاً بدواً، استفادوا من اغلاق طريق الفرات بسبب حروب الفرس والرومان، فأصبحت التجارة بين الداخل العربي ومرافىء المتوسّط تمرّ عبر أوديةٍ في الأردن. يقول المؤرّخ زينرو ليو انّ الأنباط قرّروا الاستقرار على هذه الطّرق المربحة، وبدأوا بتقديم الخدمات للقوافل، كبيع الماء والحاجيات والتزام نقل البضائع، ثمّ تحوّلوا ــــ خلال فترةٍ قصيرةٍ نسبياً ــــ الى مملكة عامرة. حفروا خزاناتٍ لتجميع المياه في الصخور حتّى يتمكّنوا من الاستقرار، أسّسوا لقوانين ولوائح جمركية وشبكات نقل بين البحر الأحمر والداخل الصحراوي، من جهة، وبين مرافىء غزة والاسكندرية من جهةٍ أخرى. وحوّلوا المعبر بين الجبال الصخرية الى ما يشبه «بولفاراً» مدهشاً، فتمرّ القوافل بعد أن تدفع المكوس في طريقٍ تحفّه، من الجانبين، الخزائن المحفورة المزخرفة والمعابد والمسلّات وتماثيل الآلهة، وصفوفٌ طويلة من الأعمدة والمتاجر، وهندسة تستعير من كلّ الحضارات (اضاف الأنباط لمستهم الخاصّة اليها، فوضعوا على رأس الأعمدة الكورينثية التقليدية برجاً قمعياً، كما في خزنة البتراء الشهيرة، وهو تصميمٌ لا تجده الا عندهم).
زالت المملكة النبطية، وانهار أسلوب حياة هؤلاء النّاس وحضارتهم، حين سيطرت روما أخيراً على سوريا بأكملها، وهيمنت على منافذ التّجارة، وفرضت ضريبة 25% على كلّ البضائع التي تمرّ بالأردن تذهب الى الخزينة الرومانية ويُمنع الأنباط من تحصيلها. هنا فقط، يقول ليو، تحوّل الأنباط الى القرصنة والغزو وسرقة القوافل، بعد أن تدهور مستواهم المادّي وحُرموا من خيرات أرضهم وعزلهم النظام الدولي وهمّشهم وجوّعهم، في دينامية تشبه الى حدٍّ بعيد ما جرى مع «القراصنة» الصوماليين في العقود الأخيرة. السؤال الأزلي هنا هو عن طبيعة «البداوة»، وعن انحياز النصوص التاريخية (التي تكتبها الامبراطوريات)، كما الثقافة الشعبية الحضرية، ضدّ الأقوام الرّعوية؛ واعتبارها البداوة حالةً جوهريّة ثابتة، تتّصف بالعنف والغزو والجلافة والفقر ــــ بدلاً من رؤية الأقوام الرعوية، ببساطة، كساكني أقاليم معيّنة، ثقافتهم وأسلوب معاشهم يتغير مع الزمن، ويقرّره السياق والإمكانيات والخيارات التاريخية (على الهامش: مدن الصحراء في سوريا لم تكن البتراء وتدمر فحسب، بل هناك ايضاً ثالثتهم، دورا، على نهر الفرات قرب البوكمال والحدود العراقية الحالية. في دورا ــــ يوروباس، التي تتحكّم بالتجارة القادمة عبر الفرات، اختلط جنودٌ اغريق من بقايا حملة الاسكندر مع ساميين بدو، ثمّ مع فرسٍ ورومان، وكانت لفترة طويلة أبعد الحاميات الرومانية شرقاً؛ ثم اندثرت ودفنتها الرمال بعد انقطاع طريق التجارة الفراتي، حتى أعيد اكتشافها في العقود الأخيرة عبر علماء الآثار. تقول التقارير الدولية إن 70% من موقع دورا التاريخي قد تمّ نبشه ونهبه خلال الحرب السورية).

البدو والحضر

في مقالٍ سابقٍ مرّ فيه ذكر سور الصّين العظيم، يبدو أنّني انحزت عن غير قصد الى «النسخة الامبراطورية» عن التاريخ (نبّهني الى ذلك، مشكوراً، الباحث السعودي محمّد السديري)، وهي تقدّم السور كإنجازٍ حضاري شيّده ملوكٌ عظام، وأنه كان عملاً دفاعياً هدفه صون الصين وحماية حضارتها من الأقوام البرابرة، الأجلاف الغزاة، الذين يصولون في سهوب الشمال. في الحقيقة، كما يؤكّد الكثير من المؤرّخين اليوم، فإنّه من غير المنطقي اعتماد هذه النسخة المنحازة عن التاريخ، وأنّ السّور لم يكن عملاً دفاعياً بقدر ما كان عملاً «عدائياً» من قبل الممالك الناشئة، تسعى خلاله الى رسم حدودها ومنع الناس والبضائع من العبور، وعزل البدو عن تعاملاتهم التاريخية مع جيرانهم. كتاب كريستوفر بِكويث، الذي ذكرته سابقاً، مسخّرٌ فعلياً لشرح هذه «النظرة الجديدة» لتاريخ الأقوام البدوية في وسط آسيا. يكتب بيكويث أن البدو، سواء في منغوليا أو في تركستان، كانوا ــــ على الدوام ــــ متحمّسين للتجارة والتبادل، وهم لم يحتجّوا حين توسّعت الممالك الصينية وبنت مستوطنات زراعية في سهولهم، بل أصبحت هذه البلدات مراكز تجارة بين الصينيين والرعاة الرحّل. ولدت المشكلة حين بدأت الممالك الصينية ببناء أسوارٍ حول هذه التجمعات، واعتبار هذه الأراضي ملكاً لهم. يقول بكويث، مثلاً، إنّه في معاهدات السلام بين الصينيين والبدو، كانت الأقوام الرعوية هي التي تصرّ دائماً على تضمين بنودٍ تسمح بحرية التجارة والتنقّل في نصّ الصلح، وتمنع الدولة من التصرّف مع الأرض والمساحات وكأنها ملكٌ للبشر.
الأقوام البدوية في وسط آسيا هي التي بنت طريق الحرير، وممالكها كانت شرايين الوصل بين الصين والهند والشرق الأوسط؛ وكانت تنتقل عبرها الأديان والبضائع وأنماط الحياة. حتّى أن التخالط بين البدو والحضريين، وتحول الكثير من الأقوام البدوية الى ممالك، يجعل النظرة الى البدو كـ»أهل هامشٍ» خطأً تاريخياً. حتّى الامبراطورية العباسية تسلّلت اليها ثقافة آسيا الوسطى بقوّة، فبعد أن عاد المأمون من مرو، التي جعلها عاصمته لسنوات، كان قد اكتسب ثقافة وسط ــــ آسيوية استمرّت في بغداد، بما في ذلك اعتماده لكوكبة من المقاتلين الأوفياء («أخوة دمّ»)، يفدون قائدهم بحياتهم ويرافقونه على الدوام ويقاتلون الى جانبه في الحرب ــــ وهو تقليدٌ قديم بين القادة الرعويين في وسط آسيا. في الصين، الغزو البدوي كان، في كثيرٍ من الحالات، نتيجة تراكمٍ تاريخي يؤدّي الى غلبة ديموغرافية للقوم الرعويين في شمال البلاد، تتبعه سيطرة سياسية وعسكرية (والفتوحات الاسلامية في المشرق لم تكن أمراً مختلفاً عن هذا النموذج، فالفاتحون العرب لم يكونوا غزاةً غرباء قادمين من مجاهل الصحراء ــــ كما يتم تصويرهم الى اليوم ــــ بقدر ما كانوا يمثّلون قوميّة تسرّبت الى المشرق حتى أصبحت أغلبية في أريافه، ثمّ انقضّت على المدن وحكمت وأسست امبراطورية). هناك كتبٌ لا تعدّ عن العنف المفترض للمغول واكتساحهم للمدن وتفنّنهم في القتل (وهي، في بعض الحالات حقيقية، وفي بعضها الآخر مبالغة، وفي أحيانٍ أخرى تعكس أساطير ورهبة ابن المدينة من الغازي الريفي)، ولكن السجل التاريخي لا يحفظ بالقدر نفسه العنف الذي كانت تمارسه الممالك الحضرية على جيرانها البدو حين تتمكّن.

غزو البدو وعنف الممالك

من الممكن نشر كتبٍ كاملة عن الشعوب الرعوية التي أبادتها ممالك الصّين، منذ ما قبل الميلاد الى القرن الثامن عشر. وكيف كانت الدولة تتعامل مع ثورةٍ في وسط آسيا، مثلاً، عبر قتل كلّ من ليس وجهه صينيّاً، أو عن الزينوفوبيا الرهيبة التي عوملت بها شعوب الحدود، أو قصّة الخيانة الأسطوريّة التي ارتكبتها سلالة التانغ تجاه قوم الايغور المانويّين، الذين كانوا حلفاءهم في تركستان وحماة حدودهم الغربية. بعد هزيمة الايغور وتشريدهم من قبل خصومهم التيبيتيين وهروبهم من وسط آسيا، نزحت بقاياهم على شكل سيلٍ بشريّ الى داخل الحدود الصينية. كانوا آلافاً مؤلّفة من اللاجئين يفترشون السهول في صقيع الشتاء، فقامت الدولة الصينية بطمأنتهم في البداية، وإرسال بعض الطعام واللباس اليهم خوفاً من ثورتهم، قبل أن تنقضّ عليهم فجأةً بجيشين ضخمين وتبيدهم رجالاً ونساءً وأطفالاً ــــ ثمّ لاحقت بقاياهم ومنعت الديانة المانويّة وصادرت أملاك الأديرة وأعدمت رجال الدين.
بل إنّ بِكويث يحاجج بأنّ اقفال طريق الحرير البرّي، منذ أواخر القرن الثامن عشر، لم يكن سببه الاستعمار الاوروبي فحسب والسيطرة البريطانية على المحيطات، وتنمية المدن المرفئية الكومبرادورية (كبيروت والاسكندرية وشانغهاي) على حساب الداخل؛ بل إنّ الاتفاق بين أباطرة روسيا والصين على اقتسام الكتلة الآوراسية، ورسم الحدود السياسية بين القوّتين، وتطويع الهوامش البدويّة على جانبيها، كان الشقّ الثاني من هذه العملية التي تردّدت آثارها السلبية من شرق الصين وأفغانستان والهند الى بلاد فارس والعراق (حيث خسر البلد، ايضاً، موقعه ودوره، ودخل الريف العراقي ومدنه مرحلةً طويلة من التراجع والإفقار). تمكّنت روسيا والصين من إقفال طريق الحرير وتهميش الساكنين في وسط القارّة لأنّ التجارة البحرية الأوروبية أمّنت لهم بديلاً. اندثار طريق الحرير وتحويل وسط آسيا الى منطقة «حدود» مغلقة، بدلاً من أن تكون جسر وصلٍ وتبادل، أغرق كلّ آسيا الوسطى وشعوبها الرعويّة، في حالة من الفقر المدقع والانحدار المادي والثقافي، أو ما يشبه «العصور المظلمة» بحسب تعبير بكويث، لم تخرج منها الى اليوم.