رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان: ترميم الزمن المعطوب | السجال الذي تلا نشر الرسائل جعل من محاولة إبداء الرأي فيها أشبه بـ «السباحة في بحيرة الشيطان». فمن وقف ضد النشر اتُهم بالذكورية، ومن وقف معه، وسِم بأنه لا يحترم خصوصية المتوفى. وربما كل من سيبدي رأيه لاحقاً سيصيبه البلل، أنا شخصياً لا أرى أن الأمر يحتمل أن تكون «مع» أو «ضد»، مع التنويه إلى أن رأيي ليس له طابع توفيقي.
لنعترف أولاً أنَّ ما يخلفه الموتى وراءهم من أشياء أو أفكار طالما كان مُحاطاً بهالة من التوجس الخفي القادر على إضفاء نزعة من الخصوصية المشوبة بالرهبة على أكثر الأشياء عادية، وحتى تلك التي تعود للموتى الأكثر بساطة. الخصوصية التي يضفيها الموت على أشياء الراحلين تصل أحياناً إلى درجة أن تكتسب هذه الأشياء شُهرة ما كان لها أن تحصّلها لو بقي أصحابها أحياء. مفارقة عبّر عنها شارل ازنافور في أغنيته Trenètement على لسان كاتب مغمور تراكمت عليه السُلف قبل أن ينجز الرواية التي اتفق مع الناشر على إنجازها. لذلك، قرر أن يكتب أفكاره كلها في ليلة واحدة وينتحر بعدها مباشرة لاعتقاده بأنه «لا بد من الموت حتى تصبح مشهوراً». قد يكون مفهوماً أن يكون الموت مفتاحاً لشهرة المغمورين. أما النبش في خصوصيات الموتى بهدف الشهرة، فهو أمر لا يقدم عليه إلا من يسعى لشهرة لم يعرفها، أو لاستعادة حضور فقده بعامل الزمن أو استهلاك الموهبة. في الحالة الثانية، يصبح الأمر بمثابة «محنة أخلاقية» لأنه يوحي بأن من ينشر يدرك أنّ الراحل ما كان ليسمح بتسليط الضوء على خصوصياته ـ أو على الأقل لن يجعل الأمر يمر من غير رد ـ أو أنه يريد أن يروي نسخته «المُنتقاة» من خصوصيات تعود للراحلين من مبدأ «لا تقل (أنا) حتى يموت كبار معاصريك». وباعتقادي أن الخروج من هذه «المحنة الأخلاقية» لا يتم عبر التذرع بـ «أدب الرسائل» أو «أدب المذكرات»، فهذه المحنة تبقى قائمة ولو أنّ ما سنرويه عن الراحل كان أمراً حميداً آثر هو في حياته عدم الإشارة إليه، فما بالنا بأنسي الحاج الذي أعلن موقفه صراحة من هكذا نشر للذكريات؟

كانت له حبيبة
واحدة وحب واحد: الأبجدية والشعر

في مقابلة له مع إذاعة «صوت لبنان» (25 أيلول/سبتمبر 2012)، وجّهت له الإعلامية ماجدة داغر السؤال التالي: «بماذا تفكر عندما أقول لك يوسف الخال، أدونيس، عاصي ومنصور الرحباني، وفيروز التي استحوذت على الجزء المهم من كتابات وشغف انسي الحاج، سعيد عقل والياس أبو شبكة؟». أجاب: «لا يوجد كلام يختصر هؤلاء، ولا مكان يتسع للحديث عنهم، إلى درجة أنني عدلت عن كتابة مذكراتي لأنّني أعتبر جانباً كبيراً من شخصية هؤلاء الأشخاص التاريخيين، واعتبر تجاربي معهم هي سرّ مقدس في ذاكرتي، لا استطيع أن أتكلم عنه مع العلم أنه سرّ مشرّف، لكني اشعر نفسي أني استغل هذا السر إذا قمت بالحديث عنه».
في رسائله التي نشرتها، أعلنت غادة السمّان، أنها لم ترد على أي منها. هذا الأمر خلّف انطباعاً بأن العلاقة بينهما هي علاقة حب من طرف انسي الحاج. لكن غادة ـ بقصد أو بدون قصد ـ عبّرت عن الأسباب التي جعلتها لا تتفاعل مع هذه العلاقة. في «محاولة الإهداء»، نقرأ: «اهدي هذه الرسائل إلى الذين يعتقدون مثلي أن للشاعر ألف ملهمة وملهمة وحبيبة واحدة اسمها الأبجدية، والحب الذي لا يخونه الشاعر طول العمر اسمه الشعر». ربما أدركت غادة حقيقة مفادها أن أنسي ـ هذه شهادة مهمة ـ كانت له حبيبة واحدة وحب واحد ولا تستطيع أنثى أن تختطفه منهما: الأبجدية والشعر. وربما هي لاحظت أن هذين الأقنومين كانا حاضرين في الرسائل أكثر بكثير من حضورها هي. وهذا الأمر لن يمر دون رد من أنثى مثل غادة الستينيات، والرد كان ألا تنافس الشعر والأبجدية على قلب انسي الحاج فهما استحوذا عليه مسبقاً، لكنها لم تحسن الخيار عندما نشرت ـ بعد خمسين عاماً ـ رسائله بهذا العري الذي يشي بأنها تعاملت مع شغف انسي بها كمن يتنشق عبير وردة وهو يرتدي قناعاً واقياً بدلاً من أن تترجمه في رواية أو قصيدة عن رجل قال يوماً «الجمال عندي هو الذي صنع الحب وليس الحب من صنع الجمال»، لكن من قال إنّ شغف الكتابة لا يشيخ؟
* شاعر وأكاديمي سوري