مررت الحكومة اللبنانية الجديدة اثنين من المراسيم ذات الصلة بقطاع النفط والغاز يوم الأربعاء 4 كانون الثاني 2017، اللذين كانا يقبعان تحت الغبار في مجلس الوزراء لأكثر من ثلاث سنوات. تأتي هذه الخطوة تتويجاً لسنوات من التأخير في إنشاء قطاع النفط في البلاد.
وعلى الرغم من أن العديد من المراقبين يعتبرون إصدار هذه المراسيم خطوة إيجابية، تلقي تلك الخطوة في الوقت نفسه ظلالاً من الشك على شفافية عملية صنع القرار في لبنان. ففي حين فشلت حكومة رئيس الوزراء السابق تمام سلام بتوقيع هذين المرسومين، على الرغم من تشكيل لجنة نفط وزارية مشتركة في نيسان 2014، تمكن الرئيس الجديد للحكومة اللبنانية سعد الحريري من إقرار المراسيم في أول جلسة لمجلس الوزراء الذي يرأسه. يثير ذلك مخاوف من عمليات تجري خلف الكواليس، قد تشكل ضربة للمساءلة والشفافية، ولا سيما في ما يتعلق بقضايا معقدة وطويلة الأجل مثل إنشاء قطاع نفط وطني. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي أن تؤخذ على أنها إشارة تحذيرية الى أن هذه الحكومة هي أكثر من مستعدة للجوء إلى مثل هذه الأساليب، بدلاً من جمع الآراء العامة وآراء الخبراء، عند اتخاذ القرارات التي تؤثر على مستقبل لبنان.
بالإضافة إلى الأمور المتعلقة بالمراسيم، تبقى أمام الحكومة مجموعة من التحديات في ما يتعلق بالنفط والغاز، وبوجه الخصوص تطوير استراتيجيّة طويلة الأمد لقطاع الطاقة. فعلى الجمهور اللبناني أن يعرف كميّة الطاقة التي يحتاج إليها لبنان خلال العقد المقبل وما بعده، وكيف تخطّط الحكومة لتلبية هذه الحاجة، وما هو الدور الذي سيضطلع به النفط والغاز البحريّان ضمن هذه الاستراتيجيّة. وعند الحديث مع المسؤولين الحكوميين، لم يتوانوا عن القول بكلّ راحة ضمير إنّ الحكومة تملك استراتيجيّة ــ رغم أنّ المضمون القليل الموجود قلّما يمكن تصنيفه باستراتيجيّة ــ وقد تمّ إعدادها عام 2008، لما كانت أسواق النفط والغاز مختلفة كلّ الاختلاف عمّا هي عليه اليوم، كما أنّ التوافق حولها مفقود حتّى ضمن صفوف النخبة، فما بالك بالجمهور العريض.
ورغم أنّ هيئة إدارة قطاع البترول قطعت شوطاً كبيراً في تنظيم العديد من ورش العمل ذات الصلة بقطاع النفط والغاز والمشاركة فيها، بما فيها تلك المنظمة، بالتعاون مع المركز اللبناني للدراسات، تدعو الحاجة إلى مأسسة العمليّة التشاركيّة، بحيث تُحدد كيفية التواصل ما بين هيئة إدارة قطاع البترول والخبراء ومنظّمات المجتمع المدني ومراكز البحوث، مع تأمين إشراك عدد أكبر من أصحاب القرار في العملية. ومثل هذا الترتيب سيسمح لجميع الأطراف المعنية بإبلاغ بعضها البعض عن تطور عملها، وتبادل المشورة والنقد البنّاء، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى بناء توافق في الآراء حول هذا القطاع.

لم يتكلّف البرلمان
حتّى عناء عقد جلسة
رقابيّة واحدة يطرح فيها
الأسئلة على الحكومة حول
ما آل إليه القطاع


الآن، وقد تمّ إقرار المرسومين، يتعيّن على الإدارات الحكوميّة بناء قدراتها حتّى تتمكّن من إدارة التحدّيات التي تنتظرها في القطاع على نحو أفضل، ونذكر في هذا الصدد وزارة البيئة كأحد الأمثلة على ذلك. وتحاجج ورقة سياسات أعدّها المركز اللبناني للدراسات حديثاً أنّه لا بدّ من تحديد مسؤوليّات الوزارة بشكل أفضل، ومن تمتين مؤسساتها، إذ "يتعيّن تطوير الإجراءات التي يتمّ من خلالها الاستعانة بالأطراف الثالثين لأغراض التفتيش والتحقيق، وإمرار تشريع جديد يغطّي إدارة نفايات الحفر والإنتاج والتخلّص منها، ومن وضع الصيغة النهائيّة للأحكام التي تنظّم إجراء التقويمات البيئيّة وإصدار الرخص البيئيّة".
ولو أراد لبنان الحصول على أكبر حصّة ممكنة من عائدات البترول للحكومة، على الهيئة أن توجد بيئة تتيح للشركات المتأهلة مسبقاً أن تتنافس بشكل فاعل في ما بينها لحيازة الرخصة. ولهذه الغاية، على الحكومة أن تعرض بعض الرقع لا كلّها، كما يطمح بعض القادة السياسيين، تكثيفاً للمنافسة بين الشركات. غير أنّ عدد الرقع المعروضة للترخيص ليس سوى جانب واحد من جوانب المسألة. فلا بدّ أيضاً من وجود عدد من الشركات تتنافس جديّاً على هذه الرقع. ونذكر أنّ من بين الشركات الـ 46 المتأهّلة مسبقاً، 12 منها هي شركات مشغّلة كبيرة ومعروفة، في حين أنّ 34 هي شركات غير مشغّلة. وعند النظر إلى بعض هذه الشركات، يتضح لنا مؤشّر مقلق: هو أنّ بعض الشركات أُنشئت قبل بضعة أسابيع من المهلة الأخيرة لتقديم العروض، ما يثير الشكوك حول صدقيّة مؤهّلاتها. ويبلغ رأس مال مثل هذه الشركات بضعة آلاف من الدولارات، ما يفيد أنّها أُنشئت لتلعب دور الوسيط. بالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من الشركات الدوليّة التي نجحت أيضاً في اجتياز جولة التأهل المسبق لديها ملكيّة مشتركة، بحصص تراوح بين 10% و100% من الأسهم. وفي هذه الحالة، يمكن لذلك أن يقوّض التنافسيّة في جولة الترخيص، إذ باستطاعة هذه الشركات ببساطة أن تتواطأ فتخفض حصّة الدولة. وفي حين أن الملكية النفعية للشركات لا تشكل في حد ذاتها مشكلة، من الضروري أن تلتزم هيئة إدارة قطاع البترول وهيئات حكومية أخرى بالكشف عن المعلومات حول أسهم ملكية الشركات وخفض عتبة الكشف عن هذه المعلومات.
وفي شأن متصل، أعرب كلّ من الهيئة والحكومة عن نيّة جديّة بالانضمام إلى مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجيّة، وهما يتفاخران بأنّ لبنان قد يصبح عضواً حتّى قبل إصدار أيّ رخصة. ورغم أنّ المبادرة من شأنها أن تفيد في الحدّ من مخاطر الفساد، تبقى الإفادة منها محصورة ببعض مراحل سلسلة القيمة. وبعبارة أخرى، يمكن لمبادرة الشفافية أن تساعد في تحديد التباين بين المبالغ التي تدفعها الشركات للدولة وبين ما تتلقّاه الحكومة من الشركات. غير أنّ المبادرة لا توضح ما إذا كانت الحكومة قد حصلت على الصفقة الفُضلى. وكذلك، فهي لا تقوم برصد إدارة إيرادات النفط، حيث يحصل معظم الفساد. ولا يعني ذلك أنّه ليس على لبنان أن ينضمّ إلى نادي مبادرة الشفافية، إلا أنّ من غير الصائب الاعتماد على المبادرة وحدها. ويحتاج لبنان إلى تعزيز هيئاته الرقابيّة وآليّة المساءلة لديه للحدّ من المخاطر.
وهنا، لا بدّ لمجلس النوّاب من أن يضطلع بدور فعّال، لا على صعيد التشريع وحسب، بل أيضاً في مجال الرقابة. وقد كانت عدم كفاءة البرلمان في مساءلة الحكومة عن المماطلة في هذا القطاع ملحوظةً. وخلال السنوات الثلاث الماضية، لم يتكلّف البرلمان حتّى عناء عقد جلسة رقابيّة واحدة يطرح فيها الأسئلة على الحكومة حول ما آل إليه القطاع. وهذا لا يبشّر بالخير للبنان، لأنّ المساءلة تُعتبر ركن الحوكمة الرشيدة. والواقع أنّ استطلاعاً أخيراً لأعضاء البرلمان أظهر أنّ 35 فقط من أصل 65 نائباً يعرفون أنّ المنطقة الاقتصاديّة اللبنانيّة مقسّمة إلى عشر رقع، وكان نائبٌ واحد فقط على بيّنة من وجود 46 شركة مؤهلة مسبقاً.
تُعتبر حالة قطاع النفط في لبنان هشّة. فلو استمرّت النخبة السياسية في تقويض مؤسسات الدولة لغاياتها الخاصّة، فعندها من الأفضل للنفط أن يبقى مدفوناً تحت قاع البحر، بدلاً من أن يدفننا نحن في مزيد من الفساد واللامساواة.
* المدير التنفيذي للمركز اللبناني للدراسات