لا يحتمل «محبس» لصوفي بطرس بحثاً بنيوياً أو شكلياً في السينما. إنّه أصلاً لا يدّعي ذلك. بيد أنّه يولي جلّ اهتمامه لما يريد قوله، ضمن جانر الكوميديا الرومانسيّة Rom-Com. يدّخر قواه لدخول حقل ألغام بلافتة تحذير أزلية: العلاقات السورية اللبنانية.
لا يفعلها من باب وثائقيات العمالة السوريّة والمشلوحين تحت «جسر الكولا» (2009) للفوز طنجور، أو «خبز وحديد» (2013) لدارين حسن، كما أنّه خارج سياق الهويّة والعسكر والجيل اللاحق في روائي «مرّة أخرى» (2009) لجود سعيد، وبعيد عن فيديوهات السوشال ميديا ذات الصبغة العنصرية.
نحن بصدد شريط عن نظرة أفراد من البلدين لبعضهم، عن أفكار مسبقة من دون احتكاك حقيقي، عن كليشيهات تناقلتها الألسن الشعبوية بلا تفكّر أو تمحيص. الفرضية بسيطة. كتبتها صوفي بطرس وناديا عليوات (منتجة الفيلم بالشراكة مع ART)، عن قصّة لهما بالتعاون مع لؤي خريش، حول قدوم شاب سوري (جابر جوخدار) مع أبيه (بسام كوسا) وأمه (نادين خوري)، لخطبة حبيبته اللبنانية (سيرينا الشامي) من والدتها (جوليا قصّار) ووالدها (علي الخليل). «مهرجان دبي السينمائي» تكفّل بالعرض الأوّل في العالم، ضمن قسم «ليالٍ عربيّة» غير التنافسي.
في الدقائق السابقة لوصول السوريين إلى قرية الخطيبة، يعمل الشريط على تأثيث أزمات علاقاته. الأم تيريز (العمود الفقري للدراما) كارهة للسوريين. السبب ليس عنصرياً كما قد يبدو للوهلة الأولى، بل نتيجة وفاة أخيها بقذيفة «شقيقة» خلال الحرب. هذا الأخير يكلّم أخته من داخل صوره الكثيرة المعلّقة في البيت. هو عقلها الباطن ولسان حالها. ابنتها قلقة حيال رد فعلها لدى انكشاف هوية «الزوّار». زوجها رئيس البلدية الموافق على الخطوبة، قرّر صدمها بالأمر الواقع. هو منهمك في مشاكل العمل، وغارق في علاقة غرامية مع سكرتيرته. جارتها (بيتي توتل) تسايرها دائماً. تزفّ الخبر لحبيب العروس السابق (سعيد سرحان)، الذي ينوي طلب يدها بدوره. على الطرف الآخر، تبدو العائلة الدمشقية أكثر استرخاءً رغم قدومها من بلد حرب، وتحفّظ الأم غير القاطع على الارتباط. هم من مستوى اجتماعي أكثر رفعةً. لا تزال طرق سوريا أفضل في نظرهم. يصلون محمّلين بالورد والهدايا. تصعق تيريز من عبارة «شلونك خالة؟»، التي يلقيها العريس مبتسماً. هكذا، يحفّز «محبس» التاريخ الشائك بحلوه ومرّه، مرتدياً قفازات البسمة والدفء والتعاطف مع شخوصه. يصطفي المشترك الإنساني من بين الشوائب العالقة: حب صباح فخري «ملك القدود»، وذكريات «المضيفين» في بلد «الضيوف»، مع مشاوير القصّاع وسوق الحميدية... يؤكّد بسلاسة أنّ الحبّ قادر على تهدئة المكلومين، وعابر لمستنقعات السياسة ووحول الحوادث الآنية. يتبنّى عقلية أنّ السوريّين ليسوا زوّاراً، بل من أهل البيت. يلعب على المفارقات بذكاء. أهل القرية يتعاركون على قطعة أرض، فيما ينجح الأب السوري «الغريب» في تهدئتهم مؤقتاً، بعفويته وخفّة دمه وكثرة غلبته. هنا، يكتسب «ماذا تقول؟» أهميّة موازية لسؤال «كيف تقول؟»، من دون طغيان أحدهما على الآخر. هذا يحرف الانتباه عمّا لا يدّعيه الشريط أصلاً من اختراقات أسلوبية، أو خروج عن بعض أعمال الكوميديا الإيطاليّة، الزاخرة بالحوارات الحياتيّة الكارهة للتنظير، والتقطيع الكلاسيكي على مستوى لغة الصورة (توليف: فادي ج. حداد). ثمّة إحالات ودلالات، من خلال تشكيلات بصريّة بسيطة (مواقع جلوس الشخصيات ووقوفها إلى جانب بعضهما، عناصر وصور في الخلفيّة...). الأداءات متفاوتة، منضبطة عموماً، من دون انزلاق إلى مواضع خلل. يكلّلها كلّ من جوليا قصّار وبسّام كوسا بمستوى لافت. هذه عودة الأخير إلى السينما بعد غياب طويل، وإن لم تأتِ من خلال فيلم سوري. هو الذي وقف أمام كاميرا كل من عبد اللطيف عبد الحميد وأسامة محمد ونبيل المالح وسمير ذكرى وغسان شميط وفجر يعقوب. جابر جوخدار يظهر تمكّناً واعداً في السينما، بعد عناوين كثيرة في التلفزيون. صوفي بطرس منحدرة من عائلة موسيقيّة. هي شقيقة المغنيّة جوليا، والملحّن زياد بطرس، الذي أنجز موسيقى الفيلم. آتية من الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة بشهادة في الإخراج التلفزيوني والسينمائي. توقيعها على عشرات الكليبات لأبرز المطربين العرب، لم يكن سوى خطوة نحو الروائي الطويل. من المؤكّد أنّ هذا ساعدها في صنع صورة مريحة للعين، بالتعاون مع راشيل عون. عملها كمديرة للشؤون الطلابية في كلية محمد بن راشد للإعلام بالجامعة الأميركية في دبي، لم يمنعها من تحقيق الحلم السينمائي. لا شكّ أنّ باكورتها ترفع مستوى التوقعات بخصوص القادم. تطالبها بتركيز أكبر على الـ «كيف»، مع الحفاظ على مشاكسة الـ «ماذا» وحساسيته.

* «محبس»: بدءاً من شهر آذار (مارس) في الصالات اللبنانية