قبل أكثر مِن تسع سنوات، احتشد نحو ألف طفل وسط ساحة بولوتنايا في موسكو، رافعين لافتات حبّهم للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. مطلبهم الوحيد «أن يبقى الزعيم هو الميشكا الكبير». ميشكا هذا في التُراث الروسي، هو الدُبّ.
عرفه الأدب هناك، وكذلك الحكايات الشعبيّة، قديماً. لقد كان «أيقونة» الألعاب الأولمبيّة في روسيا عام 1980. المُهم، سيكون للأطفال ما أردوا، فما زال بوتين هو الزعيم. لم يتأخر عليهم أكثر مِن سنتين ليردّ بالشكر، على طريقته الخاصة، باعثاً بعاصفة عالميّة، كما قالت كبرى وكالات الإعلام الأميركيّة (أسوشيتد برس) والأوروبيّة، على شكل «مُسلسل كرتون». إنّها الفتاة الروسيّة «ماشا» ورفيقها الدُبّ «ميشكا». الفتاة ريفيّة جدّاً. المُسلسل الموجّه إلى الأطفال، في الظاهر، سيُصبح خلال سنوات قليلة الأوّل في العالم مِن حيث عدد المُشاهدين. لامست إحدى حلقاته عتبة الملياري مُشاهدة على موقع يوتيوب. لم يَعد بالإمكان تجاهله. سيُصنّف مِن قِبل مجلّة «أنيميشين ماغازين» الأميركيّة، المُتخصّصة في أفلام الكرتون، كأحد أعمال «كلاسيكيّات المستقبل». سيفوز المُسلسل بجائزة «كيدسكرين» في فئة أفضل رسوم متحرّكة لعام 2015 (أوّل عمل رسوم متحرّكة روسي يَحصل على جائزة في السوق التجارية المعولمة). ستُسارع شركة «نيتفلكس» الأميركيّة الصاعدة، المزوّدة بخدمة البث الحيّ على الإنترنت، لشرائه وعرضه بعدما أصبح طلباً عالميّاً.
إنّها «ماشا». الفتاة الصغيرة، المُشاغِبة ببراءة، التي تُرهِق صديقها الدُبّ «ميشكا» وضيوفه. صاحبة المنديل فوق رأسها، كأكثر الروسيّات الريفيّات قديماً، وكبعضهن في الأطراف إلى اليوم. هيئتها رسالة تأثير بصري «غير عفويّة». إنّها، إن شئت، رسالة أيديولوجيّة سلافيّة، على حد وصف وكالة الأنباء الروسيّة «سبوتنيك» (المملوكة للحكومة). هذا ما نقلته عن شخصيّات مؤيّدة في بيلاروسيا. نهاية العام الماضي، كتبت الوكالة المذكورة، ساخرة، أنّه «ماذا نقول؟ لقد تم كشفك يا ماشا. لن تستطيعي بعد الآن مسح عقول الأطفال مِن خلال السرور الذي كنتِ تدخلينه إلى قلوبهم. هذا بفضل الخبراء الغربيين، الجبابرة، الذين يَنظرون إليكِ نظرة حسد». جاء هذا بعدما أوردت بعض الصحف الغربيّة، نقلاً عن خبراء أنّ «ماشا تخفي تحت تنّورتها دبّابات الكرملين. هي مثل حصان طروادة، أُرسِلت إلى أطفالنا لتمسح عقولهم».

أعادت الفتاة الصغيرة بثّ الحياة في مصطلحات «الحرب الباردة»

صحيفة «لا ستامبا» الإيطاليّة كانت قد نقلت بعض تلك التصريحات، ومِنها اقتراح أستاذ العلوم السياسيّة في ليتوانيا، لاوريناس كاشيوناس بـ «فرض حظر على المسلسل الكرتوني الروسي، كونه أداة دعاية للكرملين». الدُبّ في المُسلسل ــ بحسب كاشيوناس ــ يمثّل روسيا، وهذا الكائن يحمي الفتاة الصغيرة دائماً رغم مشاغباتها الكثيرة، وبالتالي ربّما يخشى على بلاده، ليتوانيا، أن تُرسّخ في أطفالها ثقافة أنّهم تحت رعاية الجار الكبير أو... «الميشكا الكبير». تصريحات قلقة مماثلة صدرت في أكثر مِن بلد، خاصة في أوروبا الشرقيّة، مثل أوكرانيا وبولندا وصولاً إلى أذربيجان. تلك الدول ذات العلاقات المأزومة مع روسيا، سُمِع فيها مَن يُطالب بضم المُسلسل الكرتوني إلى «قائمة العقوبات» (الأطلسيّة) على روسيا، بغية حظره.
إذاً، إنّها الصورة التاريخيّة النمطيّة للفتيات الروسيّات، أو السلافيّات عموماً، أو «الصقالبة» كما أسماهم العرب قديماً. حالة أقرب إلى «الهستيريا» رافقت انتشار «ماشا» في العالم. شعبيّة الفتاة الصغيرة، في إيطاليا مثلاً، فاقت كلّ التوقّعات، إلى حدّ انشغال خبراء وسياسيّين وعلماء نفس في تحليل حلقاته. أرادوا معرفة أسباب نجاحه الدولي، وولع الأطفال به، وكذلك البحث عما إذا كان يتضمّن «رموزاً سريّة ومعاني خفيّة». الصحيفة الإيطاليّة تختم معترفة بأن «ماشا» استطاعت «إظهار الوجه الإنساني لروسيا، وهي قد تُصبح عقبة غير متوقّعة لظهور الستار الحديدي الجديد».
هكذا، أعادت الفتاة الصغيرة، الكرتونيّة، بثّ الحياة في مصطلحات «الحرب الباردة» مِن جديد، ولو في مجال مختلف. اللافت أنّ لسان «ماشا» وصديقها الدُبّ، وكذلك رفاقهما (الحيوانات الأخرى) في المُسلسل، ينطق بلغة روسيّة «أصيلة». لا تُستخدم اللغة الإنكليزيّة في الحوارات، على عكس المألوف، وفي هذا إصرار واضح على «الهويّة». قد تكون الإشارة الأهم في ذلك أنّك تستطيع أن تصل إلى العالميّة، وبقوّة، مِن غير استخدام «لغة الإمبراطوريّة» (الإنكليزيّة). هذه ليست مسألة عابرة. هكذا، دخلت الفتاة الروسيّة، بعد نحو سبع سنوات على انطلاقها، إلى بيوت المُشاهدين، صغاراً وكباراً، في 120 دولة. فاقت بذلك بندقيّة «كلاشنيكوف» الروسيّة الشهيرة، التي لم تشترها إلا 90 دولة، مع فارق الشكل والمضمون طبعاً. قناة «يورونيوز» التابعة للاتحاد الأوروبي، لم تستطع تجاهل «ماشا» أيضاً، كاشفة أن المُسلسل ـــ وإن ظلّ محافظاً على النطق بالروسيّة ــ تُرجم إلى 25 لغة (أساسيّة) حول العالم. أسهبت قناة الاتحاد الأوروبي في الحديث عن الجانب الفني للمُسلسل، المصنوع بتقنيّة ثلاثيّة الأبعاد، مِن النوع المتقدّم والمُكلف جدّاً، نقلاً عن العضو المنتدب للإعلام في شركة «أنيما أكورد» (الروسيّة) المنتجة للعمل.

وصفت مجلّة «أنيميشين ماغازين» الأميركية «ماشا وميشكا» كأحد أعمال «كلاسيكيّات المستقبل»

مَشاهد العمل مريحة للعين. فضلاً عن الطبيعة البريّة، من شجر وماء وشمس وثلج، فإن وجوه الشخصيّات واضحة إلى حد قدرة المُشاهد على عدّ أسنان «المدفيد» (ميشكا). لم تكتف «ماشا» ورفاقها بالشاشة، فانتقلت إلى محال بيع الألعاب، وفق ما رصدت القناة الأوروبيّة. أصبحت الفتاة، كدمية، تقف خلف 60 في المئة مِن إيرادات محال ألعاب الأطفال. تجدها، في مختلف المحال التجاريّة أيضاً، على شكل أكياس شاي مثلاً، وبالتالي باتت «سلعة» عالميّة شاملة.
في الواقع، يخلو المُسلسل مِن مشاهد العنف المُعلّب، والرخيص، على طريقة بعض أعمال «الكرتون» الأميركيّة. ربّما كان هذا أحد أسباب انتشاره. في نهاية الأمر، يبدو أن المزاج العالمي ـ رغم مهرجانات العنف الدمويّة التي تجول كوكبنا ـ لا يزال يجنح إلى «اللطف». كما يبدو أن الأهل لا يزالون يجهدون في اختيار «الكرتون» الصالح لأطفالهم. في الولايات المتحدة، وبعدما عرضت «بيزنس إنسايدر» وغيرها تقارير عن المُسلسل الروسي، بدا أنّه لا بدّ مِن احتواء «ماشا» بعدما تفشّت. عنونوا بوضوح: «عاصفة الكرتون الروسي تضرب العالم». للأميركيين شخصيّة كارتونيّة شهيرة، في أيامنا هذه، تدعى «دورا». مغامرات هذه الفتاة الأميركيّة، التي بدأ عرضها قبل نحو 17 عاماً، جرى زج «ماشا» فيها بطريقة سخيفة. أظهر الأميركيّون الفتاة الروسيّة كغبيّة، وأن «دورا» حاضرة دائماً لإعطائها «المصّاصة» لكي تكفّ عن البكاء. إنّما الأبشع مِن هذا كان تحويل الشخصيّات «البريئة» إلى رموز «أكلة لحوم البشر». كذلك حوّلوها إلى هيئة «مصاصي دماء». لا شيء ينجو مِن تفاهة أفلام الرعب «الهوليوديّة». كسروا لطف «ماشا» بإدخال المنشار الكهربائي في مشاهد إجراميّة، وكذلك الدماء، وكلّ هذا موجّه للأطفال! كارثة أن تدع طفلك يُشاهد أشياء كهذه. لم يكن أمام العقل الأميركي إلا هذا الحل لتشويه «ماشا». عموماً، ورغم كلّ شيء، فإنّ مؤشّر مُسلسل «الميشكا الكبير» فاق مؤشرات أعمال «والت ديزني» وكذلك «نكلودين». الحديث عن داخل الولايات المتحدة نفسها.
المُسلسل الروسي وجد صداه، وبقوّة، في بريطانيا بعد إيطاليا. أصبح «الكرتون» التاريخي الإنكليزي، مثل «توماس» القطار، عاجزاً عن جذب الأطفال كما تفعل «ماشا». حتى المُغنيّة البريطانيّة، أديل، وأغنيتها «هالو» الشهيرة، خسرت أمام حلقة واحدة مِن «ماشا» في عدد المشاهدين على الإنترنت. الروس يتابعون كلّ هذا ويفركون أيديهم سروراً. مِن ناحية أخرى، وبعيداً عن هذا الصراع «الكرتوني» العالمي، فإنّ ما يُقلق في الأمر أن يكون الأطفال ساحة لهذه الألعاب السياسيّة. قلّة ينتبهون إلى الآثار التي تتركها هذه الأعمال على الصغار، أو يبحثون عن «النفسيّة» التي يُمكن أن يُصبحوا عليها بفعل المُشاهدة. ثمّة دراسات صادمة حول هذا. إنّما كلّه يُصبح لا شيء أمام السياسة.
تَظهر «ماشا» الصغيرة، في إحدى الحلقات، إلى جانب لعبة «ماترويشكا» الروسيّة التراثيّة، التي تُشبهها جدّاً. لا سائح قصد روسيا، قديماً وحديثاً، إلا ورأى هذه اللعبة الخشبيّة. «ماترويشكا» التي عرفها العالم، على نحو واسع، في حقبة الاتحاد السوفياتي، يبدو اليوم أن الروح قد نُفخت فيها. أصبحت متحرّكة، حيّة، إنّما على هيئة «ماشا»... والدُبّ.